New year غير
كنت أتربع أمامه ممتلئة بالملل .. لا جديد فيه يجذب في هذه الليلة الفاصلة بين (أمس) و( بكرة ) .. ليلة قد تبدأ معها حياة .. أو تنتهي ..
استشعر امتعاضي فعرض عليّ جولة أحلق بها إلى عوالم أخرى _ كما وعد _ فوافقت راضخة و متأملة خيرا ..
على عجل حضّرت مشروب المساء ( قهوتي المعتادة ) و تجهزت لهذه الأمسية .. منارتي فيها "بصيص تفاؤل" ..
بدأت تجوالي في ربوع بلادي .. مُدُني الساكنة الهادئة الأشبه بامرأة عجوز متصابية .. ترتدي عباءتها التقليدية المستنسخة منذ أجيال .. بذات الموديل و ذات الطراز و ذات النمط في الارتداء .. هرمة هي و ستبقى هرمة رغم محاولاتها المستمرة للتطور والتجديد إلا أن تقاليد الماضي باتت متأصلة فيها بفرض سيطرة رقيبها الماكنة ..
يُخيّل إليّ أحيانا بأنها تهاب التطور خشية انسلاخها عن أصولها و جذورها مكتفية بتصابيها الممل و الذي بات محط سخرية البعض ..
لا جديد .. غادرتها ومضيت ..
مررت بحشد من الناس .. جموع غفيرة بفئات عمرية مختلفة .. أطفالا و رجالا و نساء من عدة جنسيات نصبوا خياما بيضاء ترفرف فوق نواصيها أمجاد ثورة .. ثائرين حانقين و معارضين .. نُقش على وجوههم الغضب و خُطّ على أجسادهم تاريخ عُمر .. يتهافتون على غرس شهدائهم بتلاتٍ مزهرة على أنقاض حريق ..سُقياها جداول من دماء .. سألتهم : " ما هي النية ؟؟ " .. أجابوني بصوت واحد صارخ : " الشعب يريد .. وطن جديد .. الشعب يريد .. وطن جديد" ..
تركتهم خلفي أصفق كفّاً بِخَد على ما آلت إليه بعض الحكومات .. و كَفّي الأخرى رفعته أرتجي النصر من الله ..
توقفت عند ناصية شارع غريب .. مبهم وعجيب .. فاض بالفتيات .. منهن السمراء والشقراء والبيضاء .. وقفن متراصات بعد أن اصطبغت وجوههن بألوان الطيف .. خلفهن لوحة كتب عليها لغز .. ( مدينة أسوارها خضراء وبيوتها حمراء وسكانها بيض وسود ) .. وقفت برهة أتلصص عليهن من خلف سور .. سمعت صوت أحدهم يتحدث معهن محاولا حل اللغز الصاعق .. الصادم في الموضوع أن الشخص الذي حل اللغز خطئا " عامدا " اختفى خلف جدار وارتدى قناعا آخر ثم عاد إليهن .. و كان جوابه خاطئا أيضا كسابقه .. ثم عاد واختفى خلف الجدار ليتخفى تحت قناع آخر .. أقسم بالله بأنه نفس الصوت ونفس الرجل ولكن بلهجات مختلفة ..
يا عالم .. هل نحن أغبياء إلى هذا الحد ؟؟ " .. منذ أن تفتقت عيناي عن رموشها و هذا اللغز يتداوله الجميع حتى صار جوابه بديهيا و لا يصعب حله حتى على الطفل الصغير.. البلية ليست في الإجابات الخاطئة .. بل شر البلية في المحاولة الغبية لجذب الجماهير بهذه الطريقة " البطيخية القرعاء " و هذا الأسلوب الفضائحي الركيك ..
طوّقتني نوبة من الضحك أطاحت بي أرضا شدتها .. ضحكت على حال هذه الأمة و صرفها للألوف المؤلفة لإنشاء مثل هذا الشارع المضحك المبكي .. ليس سوى محطة نصادفها عابرين لنتجرع بعض ضحك و نغادر .. كما غادرتهم و أنا أصفع بقهقهتي زيف دعايتهم و سُخف مُمَوّلهم .. و يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ..
توقفت برهة في بيروت .. هذه الفتاة المغناج المدللة .. لا أراها إلا ضاحكة و مستبشرة رغم صِداَماتها و صَدْماتها ..
كانت هناك امرأة تجلس على طاولة مستديرة و التَفّ حولها لفيف من المشاهير ينصتون إلى حديثها بكل ترقب و توجس .. جئتُ بمقعد و جلست معهم و رحت أنصت لما تقول ..
مجموعة توقعات و تنبؤات للعام القادم بعد دقائق .. بعضها مرعب و الآخر مبهج و الباقي في( علم الغيب !! ) و هل جميع ما تَوقعْتْه و تنبأتْ بحدوثه هو كائن لا محالة ؟!!!!!..
حقيقة تأثرت بما قالته حد تصديقه .. وما أن وصلت إلى هذه المرحلة من القلق قفزت عن مقعدي و بعدت عنهم و أنا اتمتم " كذب المنجمون ولو صدقوا " .. و أتمنى أن لا تصدق توقعاتها المخيفة تلك .. أتمنى ..
و أنا أسير تعثرت بحجر فوقعت أرضا بجانب أحد الأبواب .. لم يستوقفني ألم الوقعة قدر ما استوقفتني الأصوات الصادرة من ذلك البيت .. بكاء ونحيب .. خبط وخبيط وصراع و عراك .. بيت مشحون بالغضب و الهم والغم والنكد .. ركضت هاربة منهم مثل الهارب من دب أسود و شرير .. و( عشرة ما يلحقوني ) .. هربت خوفا من انتقال العدوى السوداء تلك إلي .
نفضتُ غبار الحَزن عن ردائي و أنا أدعو الله من صميم قلبي أن تتبدل أحوال مجتمعاتنا الخليجية إلى أحسن حال و أن يتغير واقعنا إلى الأفضل لتُعبّر عنه الصور بمرح أكبر و ألوان جديدة أجمل ..
و فجأة لفت انتباهي مسرح للدمى .. اقتربت منه قليلا و أنا أرشف قهوتي على أمل بأن أجد الجديد المتجدد هنا.. ولكن و كما توقعت و مثل ما بدأ مشوار هذا المسرح منذ ما يقارب السبعة عشر عاما و حتى اليوم وهو على ذات المنوال و التقنية .. مجرد دمى ملونة و جميلة صنع بعضها في المكسيك و البعض الآخر في فنزويلا و الجديد الذي انضم إلى رَكْبها هو صنع تركيا .. الصوت يُناقض الشكل .. و الكلام في وادي و حركة الشفاه في وادي آخر ..
لم أتحمل البقاء هناك أكثر .. خفت أن أجن .. فغادرتهم غير آسفة ..
و أخيرا حططت الرحال في دبي .. هذه المدينة التي تنبض بالتطور و ترشف الحضارة من قدح ماضيها العريق .. مدينة لا تهدأ ولا تستكين .. و أكاد أجزم بأنها أبدا لا تنام .. أحبها قدر عرسها اليوم .
اقتحمت تلك الحشود المتناثرة قرب برج خليفة لأقتنص معهم فرصة عابرة و استمتع بوهج الألعاب النارية و احتفال النافورة الراقصة طربا مع أنغام معزوفاتها الساحرة .
وقفت هناك أرقب ساعة الصفر .. و ما أن ولد العام الجديد حتى اشتعلت سماء الليل قناديل من ضياء .. لمحتُ السعادة على محيّا الجميع و الأفراح تزغرد مع مباركتهم لبعضهم بالعام الجديد .. و تذكرت حينها ( طراطيع الثوم ) .. ولمن لا يعرفها هي مفرقعات بيضاء صغيرة جدا تشبه إلى حد كبير نبتة الثوم .. ما أن تُقذف على الأرض حتى تُصدر صوت فرقعة خجول .. كنا في طفولتنا نسعد بها و نهاب صوتها .. تُرى ما حجم ذبذباتها مقارنة بزمهرير الألعاب النارية هنا هذه الليلة ؟؟ .. بل ما هو حجم المفرقعات في مهرجاناتنا المتواضعة كشاكلة ( جدة غير ) قبل أن تصبح ( جدة غير قت ) .. ؟؟ ..
هم هناك يسعدون و يفرحون وأنا في مكاني لم أبرح جدران غرفتي ..
ملل .. ملل .. ملل ..
أغلقت التلفاز و تجرعت ما تبقى من قهوتي الباردة على مضض .. و قفلت عائدة إلى قواعد مكتبي لأحيك شبكتي العنكبوتية و أبحر في عالم النت .. هذا العالم الذي أشاهد فيه ما يحلو لي و أختاره أنا ..
و ليس ما تفرضه علينا التلفزة ..