الأحد، 20 مايو 2012

بيت العمر



بيــت العمــر


على قرع الدفوف وشدو النساء بأهازيج الفرح .. كان زفافها ..
عروس جميلة في ليلة أجمل تبدأ معها حياة جديدة ..

ورودا تنهمر من كل جانب.. وفرح يزغرد .. وبرقة السيوف المتمايلة في عرضة جميلة يرقص معها والدي العروسين سعادة وبهجة .. و دعوات صادقة بالسعادة والتوفيق تخرج من الأعماق ..
كل هذا يحدث في ليلة فرح أسطورية من ليالي زمان ..
عندما كانت الفرحة من القلب والكلمة من القلب والضحكة من القلب .. وكل فعل صغير من القلب ..

سار بها موكب الزفاف إلى بيتها الجديد و مملكتها السعيدة ..
هو ملكها .. قصرها وهي سيدته الوحيدة .. اختارت أثاثه قطعة قطعة و حولته من مجرد أسقف وجدران إلى لوحة جميلة أبدعتها أنامل الرسام ..
كان سكنها وسكينتها .. أمنها وأمانها .. تقاسمت فيه مع زوجها كل ركن و زاوية .. تشاركا في حبه و عمارته .. لم يكن بيتا عاديا كان أكثر بكثير ..

دارت بها عجلة الأيام ومرت سنواتها كلمح البصر .. إنجابها لأبنائها الخمسة و التحاقهم بالمدارس .. بكاؤهم وفرحهم.. زيارات أهل وأصدقاء و أعيادا كثيرة .. ذكريات مليئة بالحزن والمسرات .. كلها كانت هنا .. في هذا البيت .
واليوم .. وبعد مرور ستة وثلاثين عاما قضتها في هذا المنزل .. لاشيء سواها و ماض كالحلم والسراب يمر بذاكرتها فتتمسك به خشية أن يضيع ويرحل كما رحل الأحباب ..

تزوج جميع أبنائها ورحلوا عن البيت .. و تبعهم زوجها برحيله عن الدنيا ..
بقيت وحيدة تسكن بيتها البارد بعد رحيلهم .. تناجي الصور وكأنها تنادي من فيها وتستجديهم المثول أمامها عوضا عن أسرهم في إطار صورة ..
جدران تحاول استنطاقها لتشاركها استعادة ذكريات مضت كأنها ستنطق وتقول أذكر ما تذكرين .. لازلت أشعر بأبنائك وهم صغار يتخبطون بي عند ركضهم ولعبهم ..
أسقف تكاد تقول هنا اصطدمت بي كراتهم.. وهنا علقوا علي حبالهم في محاولة شقية و بريئة للصعود إلى ..
سجادة على الأرض تكاد تشكو من ما جرى لها طيلة سنوات و ما عانت منه من سكب للطعام والشراب وخَطوِ أقدام صغيرة ..
أرجوحة معلقة في الحديقة الرياح تداعبها الرياح فتميل يمينا وشمالا كأنها تبحث عن صغار كبروا وأطفال شبّوا وماض ولى واندثر ..
أسرّة صغيرة تسكنها آثار نومهم وتقلباتهم في الليالي القديمة ..
طاولة طعام عليها آثار أقلامهم مخطوطة بالخفاء دلالة على لعبهم عوضا عن الدراسة والاستذكار ..
مقاعد شهدت جلوسهم وتجمعهم حول التلفاز في ليالي جميلة راحت وانقضت ..
نوافذ عانت من لمسات أيد تغلقها مخافة أن يتسرب صوت شقاوة الأطفال لجيران قدامى .. وكم هائل من التهشيم والتكسير بسبب لهوهم بالأحجار و الكرة ..
حديقة غناء أطربتها ضحكات الصغار وركضهم تحت المطر ..
هنا جلسوا .. هنا ضحكوا .. هنا تخاصموا .. هنا لعبوا .. هنا ناموا .. هنا أكلوا .. هنا شربوا .. هنا بكوا .. و من هذا الباب .. غادروا..
كل ركن وكل شبر وكل زاوية في هذا البيت تحمل عبق الماضي .. و ذكريات شجية وأيام يصعب تعويضها ..

واليوم .. تجلس وحدها على مقعد هش .. عجوز ضعيفة .. مضت أيامها طابعة عليها آثار السنين .. تجاعيد وشعيرات بيض .. ضعف ووهن .. وجسد أنهكه الزمن ..





جلست تتأمل هذا البيت بدموع تئن .. كيف ترحل من هنا ؟؟
كيف تترك بيتها .. مملكتها .. عمرها الفائت وذكرياتها ؟؟ .. كيف تترك الماضي وترحل ؟؟ .
لكنها سترحل .. هذا حكم الزمن .. و هذا ما كتبه لها القدر ..

اتكأت على كتف ابنها تهبه أيامها القادمة .. فهل يا ترى بقي في سنوات العمر عدد ما رحل ؟؟ ..
مشت معه خطوات نحو مستقبل تجهله .. تاركة خلفها ماض جميل .. وبيتا شامخا بالذكريات .. يبكي رحيل أصحابه .

*************

* تم نشرها في صحيفة الرياض السعودية
بتاريخ الجمعة 17 ربيع الاخر 1428 هـ
4 مايو 2007 م
العدد 14193

* الصورة بعدسة المصور اللبناني ميدو سيف الدين ..
فشكرا له ..
http://www.facebook.com/midophoto
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق