السبت، 19 مايو 2012

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة الأخيرة)


* يا ستّي يا ختيارة


 


كنت قد فرغت للتو من صلاتي عندما جاءتني حفيدتي راكضة تحمل معها دمية صغيرة .. ارتمت على صدري تنشدني الاحتماء من شقيقتها الكبرى .. لم اسألها شيئا فقد عهدتها دائما تفر من قريناتها أثناء لعبهن الغميضة لتختبئي في حجرتي .
هذه الزائرة الصغيرة التي لا تفوت ساعة من يومها دون أن تستطلع أشيائي القديمة المختبئة بخجل في خزانة الماضي و الأدراج .
تأتيني كنسمة هواء لطيفة ترطب أجواء وحدتي فتقتلعها من جذورها بإعصار من الأسئلة .. سؤال تلو سؤال .. عن القديم الغريب الذي يزين حجرتي .. من زجاجات عطر إلى صور تشققت أطرافها و صناديق نحاسية أحفظ داخلها مجوهراتي العتيقة . حتى الصرر التي خِطتها بيدي لتحتوي داخلها ثياب أبنائي حين كانوا صغارا.
أخبئها داخل خزانة كبيرة .. هي دوما نافذتي إلى الماضي الجميل . ذلك الماضي الذي ما أن تزورني لحظات الشوق و تهزني ثورات الحنين إليه حتى أفتحها و أشتم معها عبق الزمان الذي ولى وانقضى.

منذ بضعة أيام كنت منهمكة في عمل عجينة الحناء كي أصبغ شعري بها ، سمعت صوت خطو قدميها الصغيرتين قرب باب الحجرة .. ثم قرعا خافتا كقطرات مطر ترْبُت على نافذة قلبي : " جَدّة .. أدخل ؟؟ "

" تستأذن الدخول ؟؟!! .. كيف تستأذن الدخول إلى عالم لولا و جودها فيه ما كان ليكون؟؟ .. كيف تطلبني السماح لها باقتحام زمن كل ما كان قبله أو حتى بعده ليس محسوبا من عمري ؟؟ .. ما هي حياتي لو لم تكن هي و إخوتها ورودها وبساتينها .. هوائي الذي أتنشق ؟؟ .. كيف ؟؟ " .
" تعالي يا حبيبتي .. تعالي ".
هاهي قادمة تركض نحوي وتفرش دنياي بألوان الطيف .. لتشرق شمسي وتضيء كل حياتي .

دنت من حِجري قليلا حتى جلست .. وراحت أناملها الرقيقة تصول وتجول في عجينة الحناء ، ثم تقربها من انفها الصغير لتتنشق رائحتها النفاذة .. و مهرجان من الأسئلة انهال علي احتفاءً باكتشافها الجديد.
" ما هذا يا جدة ؟؟ .. ماذا تعني حناء ؟؟ .. لماذا رائحتها قوية ؟؟ .. هل ستأكلينها ؟؟ .. لماذا تضعينها على شعرك ؟؟ .. هل تسمحين لي بأن أجربها ليتلوّن شعري بالأحمر ؟؟ " .
لم تهدأ انفعالاتها حتى وضعت القليل من الحناء على شعرها الأسود .. سواده الفاحم ورثته مني. قبلت رأسها الصغير متأملة هذا الشعر الذي اصطبغ بالأخضر عندما باغتتني بسؤال زلزل لي كياني .

" جدتي .. لماذا تمسحين على شعري عندما تقبليني ؟؟ .. أنا لست قطة .. قطتي فقط أمسح عليها و أقبلها " ..
شعرت بقشعريرة تسري في أنحاء جسدي .. وتنفض عن ذاكرتي غبار السنوات الماضية .. فعاد بي شريط الذكريات نحو الوراء عندما كنت أطلب من جدتي رحمها الله أن تسرح لي شعري وكانت تتأمله .. والترقب الذي كان يسكن داخلي خشية على شعري من أن تقصه لي .. وانشغالي بسر تأملاتها وحديثها الدائم عن رغبتها بالعودة إلى عمر الطفولة ..
لسنوات طويلة كان سؤال حفيدتي يسكن فكري ويشغل بالي و يستحوذ على اهتمامي ..
كنت أراه لغزا يستعصى علي حله .. و طلسما غامضا أرَق لي مضجع طفولتي .. لدرجة الحرمان من النوم في بعض الأيام.
و الآن أدركت الأمور ..

أدركت أن السواد يمحى بالبياض .. وأن العجز يغتال الطفولة ..وأن الأزهار تذبل وتموت الورود ..وأن اخضرار الربيع تطمره الثلوج ..وشمس النهار يُغَيّبها الغروب ..
أدركت أن الماضي لا يعود .. ولن يعود ..
وأن أجمل الحاضر هو ما أراه اليوم في أعين أحبابي .. وأستشعره في وجودهم ..

استوقف صخب أفكاري أصوات نداء الصغار في الطابق السفلي، يستعجلون قدومي أنا وحفيدتي لمشاركتهم الجلسة العائلية .
عادتنا كل يوم جمعة نجتمع سويا لنقضي نهارنا وطيلة يومنا في جلسة حميمة نتشارك فيها الطعام والحديث والسهر ..
يوم واحد من كل أسبوع ننفض فيه تعب الغياب عنهم لتسمو أرواحنا معهم .. فتغدو بهم حياتنا أحلى .
ترافقنا أنا وهي لهبوط السلالم .. تمسك بيدي و تقفز بغنج أنثى و مرح قطة شقية .. وتغني لي بصوت بلبل يرفرف بأجنحته رفرفة سلام فأشعر معها روحي تبتسم.

في ذلك الركن الصاخب .. جلس بعض الصبية من أحفادي يلعبون بجهاز غريب .. يقال عنه ( وِي) كما أسمعهم يسمونه ..
وعلى مقاعد الحديقة الخارجية .. جلسن حفيداتي الصغيرات .. يتهامسن ويتسامرن برقة وغنج ومرح .. ونظراتهن تتنقل على الصبية .. الذين يبادلونها معهن بإعجاب وزهو ..
وعن يميني جلس أبنائي يتجاذبون أطراف الحديث فيما بينهم عن مختلف شؤون الحياة .. من مال وأعمال وصفقات وأسهم .. ونقاشات حامية ، تعلو موجة الحديث وتخفت بين الحين والآخر ..
وعلى شمالي .. جلست النسوة يتحدثن عن الأطفال وشؤون المنزل وأعمال بعضهن خارج المنزل ..
وزوجي وشريك أيامي الماضية .. والمتبقية.. بابتسامته العذبة ونظراته الحنونة وشعره الذي اشتعل بياضا .. يلاعب أحفاده الصغار متوكئا على عصاه ..
بيتنا صار يعج بالهناء .. ويزهر حبا يوما بعد يوم ..
وأذبل أنا .. يوما بعد يوم .. بعد يوم ..

كانتا عيناي تراهم .. وقلبي يدعو لهم .. وروحي تحيطهم وتلفهم وتحتضنهم ..
سرحت معهم وبهم .. كنت بالأمس مثلهم.. أتشارك طفولتي مع أقراني .. أجري وألهو وأركض .. لا أعي معنى الحياة .. ولا يعنيني مرور السنين ..
عشت شبابي بكل عنفوانه وتمرده وتحديه وقوته .. وجماله ..عشت حياتي بحلاوتها ومرارتها .. بلذتها و قسوتها .. عشت أيامي .. يوما تلو يوم .. بكل سحر أوقاته وساعاته .. وجاذبية ثوانيه ..
أنا هنا .. دارت بي عجلة أيامي .. وصرت كجدتي .. ضعيفة وواهنة.. تجلس على مقعد و تلف رأسها بشال .. و تعد ما تبقى لها من أيام ..
جدة .. عاد ماضيها مرة أخرى .. في أعين الصغار .
" مضت بي سنوات العمر دون أن أشعر .. وما أُبقت لي غير ذكرى أقبض عليها بشدة خشية أن تضيع و ترحل .. كما رحل العمر" .

اتكأت على جانب المقعد .. أغمضت عيني في هدوء وطمأنينة .. لأخذ غفوة قصيرة ..
تعالت أصوات من حولي وتداخلت مع بعضها البعض .. كموسيقى.. كنبض حياة جديدة..
وفي داخلي همس خافت .. أخذ يصرخ باكيا ..

" ليتني أعود طفلة " ..


*********************


همســة :

سيَر الحياة لم تكن يوما حكرا على أحد ..
فالحياة أنثى .. والأنثى حياة ..
بطلتها أنتِ.. فقط أنتِ ..
و هي ..
و أنا ..



تمت .. ولن تنتهي


وأخيرا .. * حقوق الأغنية محفوظة للفنانة طروب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق