*تاتا .. حبة حبة
الجزء الثالث
بعد بلوغي العام والنصف من عمري المديد .. صارت حصيلتي اللغوية وفيرة نوعا ما .. رغم عدم قدرتي على النطق بشكل جيد إلا أنه صار باستطاعتي التعبير عن ما أريده بكلمات قصيرة تفي بالغرض .
ذات يوم وأثناء تجوالي في حديقة المنزل برفقة أخي ( الوحش الكاسر ) و مجموعة من أصدقائه الصغار لمحت طائرا يقف على غصن شجرة صغيرة بالقرب مني . لم أعرف ما هو بالضبط لكن هيئته تختلف كثيرا عن الطائر الذي يغرد بجوار نافذتي كل صباح.. أقتربت منه قليلا لأستطلع أمره ثم سرعان ما رفرف بجناحيه و حلق عاليا عندما جاء أخي وصرخ صرخته المعتادة فيهرب منه الجميع .. حتى أنا .
" أفّووول " .. حسبته عصفور .
كانت أمي تجلس على الأرجوحة عندما نادت على من حلق عاليا وقالت " تعالي يا فراشة .. تعالي " .
" آآآته " .. عرفتها فراشة ..
جاءتني لتحملني معها وتجلسني على الأرجوحة ثم راحت تغني " نملة صغيرة حلوة كتير .. دوما دوما على بكير .. بتفيق تجمع أكل كتير .. حنطة و برغل عدس شعير .. أما الصرصار يا ستار .. عم يغني ليل نهار .. بكرة في فصل الأمطار .. يبقى من كسله محتار .. إما يروح لعند الجار .. أو يموت و ياكله الفار .. هَممم " ..
لا أملك أمام هذه الأغنية سوى أن أصفق بيدي الاثنتين وأحلق عاليا مع أرجوحتي .. كتلك الفراشة البعيدة التي ترسم بأجنحتها لوحة زاهية الألوان ويركض خلفها أخي مع أصدقائه فتأبى أن يمسكوا بها .
" تُرى .. ما هو السر في ركضهم خلف من ترفضهم ؟؟ .. " .. هو سؤال آخر من الأسئلة التي تركت إجابتها للأيام .
بمناسبة الركض .. منذ بضعة أيام اشترت لي أمي صندلا صيفيا، أو قد يكون خُفا خفيفا أقرب ما يكون للجورب، لا يمكنني الجزم بهويته، ولكن أجمل ما فيه كان هذا الصوت الصادر عنه عندما أمشي أو أركض .. فعندما تدوس قدمي على الأرض يُصدر حذائي صوتا أشبه ما يكون بزمور السيارة .
صار لركضي معنى آخر و له موسيقى جميلة أعزف سيمفونياتها مع كل خطوة . لا يهم الإزعاج الذي أسببه للمحيطين بي لأن ما يعنيني حقا هو افتعال الإزعاج في حد ذاته .
و لكن مشكلتي التي أواجهها عندما أرتدي هذا الزمور هو كشفه لدائرة وجودي .
بمعنى أنه بات يكشف لأهلي خط سيري و منطقة عبوري ويفضح صمتي المباغت. فعندما يصلهم صوت هذا الزمور يدركون أن كل شيء يسير على ما يرام .. بينما عندما يخفت صوته يعرفون بأني بَعُدت عن مجال رؤيتهم .. و عندما يسكت فجأة يتأكدون بأني عثرت على شيء ما و هو في الطريق إلى مغارة فمي .
أدركت الآن فقط بأن لكل اختراع ايجابيات وسلبيات. و هذا من الدروس الأولى التي تعلمتها الآن .
بالأمس رافقت أبي و أمي و أخي إلى محل الألعاب.
لاحظت بأن لأخي مطلق الحرية في اختيار ألعابه، فقد امتلأت عربة التسوق بالكثير من السيارات الملونة والمختلفة الأحجام ، و من الكرات أشكالا و ألوان. أما أنا فلم يُفسح لي المجال لأختار.
كنت أجلس في مقدمة العربة مأخوذة بتأمل هذه الأرفف الشاهقة الارتفاع و ما تحويه من الألعاب المتنوعة بينما كانت العربة تمتلئ بألعاب أخي واحدة تلو أخرى .. أما أنا فقد اختارت لي أمي مكعبات بلاستيكية الصنع و كبيرة الحجم عندما سألها أخي : " إنها كبيرة جدا لماذا ؟؟ " .. فأجابته أمي : " حتى لا تبلعها ".
" حتى لا أبلعها ؟؟ " .. صار بلعي للفتافيت والخيوط وبعض النمل هاجسا لهم جميعا .. العجيب في الموضوع إما أن يكونوا هم .. أو أكون أنا العجب العُجاب.
هنا يكمن سؤالا آخر .." لماذا له حرية الاختيار، و أنا علي فُرض الخَيار ؟؟ .. هل بسبب صِغر سني ؟؟ .. أتمنى .." ..
في ذلك المساء وقبل أن تحين ساعة نومنا أنا وأخي كنت أجول في أنحاء البيت عندما كانت جدتي تجلس على مقعدها و تشاهد ما يسمى ( تلفاز ) .. مشيت قليلا نحوه .. ثم وقفت .
صرت أتأمل هؤلاء الأشخاص الملونين خلف الحاجز الزجاجي .. وضعت يدي عليهم ولم ألمسهم .. لم أستطع .. شيئا ما دفعني أكثر نحوه ورحت أضرب عليه بشدة علّه يُفتح و يخرج منه هذا الكم من البشر أمثالنا .
" كيف تمكنوا من الدخول إلى هناك فيما أنا هنا أقف عاجزة عن التواجد معهم ؟؟ " .. سألت نفسي هذا السؤال مرارا وتكرارا في كل مرة أشاهد رسما متحركا أو ألوانا تشع من خلاله .
مددت رأسي قليلا لأرى ما هو كائن خلف هذا الجهاز .. مشيت خطوة .. خطوتين حتى وقفت خلفه تماما .. صوبت عيناي باتجاه تلك الحفر الصغيرة فقد يكون بإمكاني لمح أحدهم بشكل أو بآخر .. استقبلتني رائحة الكهرباء و إضاءات خافتة ووميض غريب لا أعرف مصدره . أثناء محاولة استكشافي للموضوع شعرت بيد أحدهم تنتشلني من مكاني وكالعادة تسبقها كلمة ( كِخ ) ..
" جدتي يا جدتي .. لا تخافي علي إلى هذا الحد .. أنا الآن في مرحلة الاستكشاف و التعرف .. دعيني أكشف هذه الألغاز التي تحيط بي و أضع حدا لكثرتها .. كل ما أردت معرفته هو كيف ادخل في هذا الجهاز .. فقط لا غير .. ثم لابد لي من التحلي ببعض الجرأة .. لا أعلم ما سيواجهني من مواقف في مستقبلي القادم .. أريد التدرب على مواجهة الصعب من الآن .. أو سأقضي بقية عمري خائفة !! .." .
أجلستني في حِجرها وراحت تقبلني وتمسح على شعري كعادتها التي باتت تحيرني فعلا .
جاء وقت النوم الآن ..
وضعتني أمي على السرير حتى تنتهي من تحضير أخي للنوم ..
وكعادتهما كل مساء، عراك وجدال بسبب غسل الأسنان و شرب الحليب و وجوب النوم المبكر للاستيقاظ باكرا واللحاق بالمدرسة .. وأنا في سريري الصغير ألعب بدميتي و في رأسي ألف سؤال .
" لماذا ألعب بدمية ذات شعر متطاير و مكعبات بلاستيكية بينما أخي يلعب بسيارة ؟؟ .. و لماذا يجب علي شرب الحليب قبل النوم ؟؟ .. ولماذا جدتي تمسح على شعري في كل مرة أكون معها ؟؟ .. والأهم .. ما معنى كلمة ( كِخ ) .. ؟؟ " .
غدا سأكبر و ستنجلي كل الأسرار ..
" متى سأكبر ؟؟ " .
****************************
يُتبع ..
* حقوق الأغنية محفوظة للفنانة المصرية الراحلة فاطمة النبوية الشهيرة بــ أحلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق