* طيري يا عصفورة .. أنا متلك حلوة صغيورة
الجزء الثاني
حال عودتنا من المدرسة أعدو مسرعة إلى غرفتي لأقوم بحل واجباتي و استذكار دروسي .. فيما ينصرف أخي إلى اللعب و متابعة التلفاز .
سأخبركم بسر صغير .. ذات يوم عدت من المدرسة وأنا حزينة وسعيدة في ذات الوقت ..
حزينة لأن معلمتي قبضت علي بالجرم المشهود .. شاهدتني وأنا أدُسّ رأسي في درج منضدتي و ألتهم قالب الشوكولاته الذي اشتريته من المقصف .. فانتشلته مني وهي غاضبة وتتوعد وتهدد بأن تقلص من درجاتي الفصلية ..كم شعرت بالكره نحوها في تلك اللحظة .
لم تدم كراهيتي لها غير سويعات من الزمن .. ففي نهاية اليوم الدراسي رأيتها تنزلق وتقع في أحد الممرات أثناء سيرها.. كم ضحكت عليها.. وكم أحسست بعدها بتأنيب الضمير. " يا لي من فتاة شريرة " ..
حسنا أنا لا أكره معلماتي فجميعهن طيبات ولطيفات ويلصقن على جبيني النجوم والصور عندما أدرس باجتهاد .
بعد استذكار دروسي جيدا والانتهاء منها أخرج إلى الحديقة لألعب وأتأرجح قليلا ..
أحب الأرجوحة .. فمعها أشعر بأني عصفورة تطير و تغرد فوق السحاب.
" عصفورة .. عصفورة " .. ولحقت بها لأمسكها قبل أن تطير ..
أعشق تربية الحيوانات .. هوايتي وميولي و جُل اهتماماتي .. رغم أن محاولاتي لاقتناء بعضها كثيرا ما تبوء بالفشل.
في عصر أحد الأيام كنت ألعب بجانب الشجرة فرأيت نملة صغيرة تمشي وحدها .. فأمسكت بها سريعا ووضعتها داخل صندوق صغير و أغلقته عليها و قفلت عائدة إلى داخل البيت لأحضر بعض السكر.
عدت إلى نملتي .. بحثت عنها كثيرا ولم أعثر عليها .. هربت أكيد و ضاعت وسط زحام العشب.
ذات يوم أهداني أبي هرة صغيرة.. كانت هدية جميلة جدا انتظرتها بلهفة طفلة ترقب يوم عيد مولدها .
كل يوم يمر .. تكبر فيه قطتي وتكبر معها محبتي لها وللحيوانات جميعا .. حتى أنه وفي فترة من الفترات امتلأت حديقة بيتنا بالقطط .. حتى فاق عددهم خمسة وعشرين قطا .. ومعظمهم من الشارع.
لا يهم .. الأهم هو المتعة التي أشعرها وأنا أدللهم وألاعبهم و أطعمهم .
في يوم قريب .. سمعت أمي تقول لصديقتها " اثنان يصدقان في محبتهما للإنسان منا لا يخدعان ولا ينافقان .. ولن يكذبا .. الطفل و الحيوان.. كلاهما يشعران بمن يحبهما بصدق وسيبادلانه الحب بحب وصدق و وفاء بلا مصالح و لا غاية ، حب نقي خالي من الشوائب " .
ستبقى كلماتها تلك معي إلى أبد الدهر .
أحيانا أشارك أخي اللعب بالكرة .. و رغما عني ..
أخي ؟؟ .. لا .. بل الوحش الكاسر .. فدائما نتشاجر ..
في إحدى المرات و فيما كنت منهمكة بالتلوين جاء هذا الوحش ودون سابق إنذار ضربني على رأسي و فر هاربا .. لحقت به راكضة وشعري يتطاير في كل اتجاه وأنا أقذف بأقلام التلوين على ظهره الضئيل .. فدلف مسرعا إلى غرفته وأغلق الباب .. دقائق معدودة وأدرت أكره الباب ففتحته .. مددت رأسي نحو الداخل بكل توجس وحذر فرأيته يقف في ركن الغرفة رابطا حول خصره حبلا متآكلا محاولة منه لتقليد أبطال الكاراتيه .. ويلف حول عينيه عصابة سوداء وعيناه الصغيرتان تظهران من خلف فتحات ممزقه بطريقة مضحكة فبدا شكله كسلاحف النينجا ..
"مهلا مهلا .. لقد رأيت قطعة القماش السوداء هذه من قبل .. آها .. لقد تذكرت .. كنت أفرشها كسجادة لبيت الدمى الخاص بي وافتقدتها منذ أسبوع .. إذا أنت من استولى عليها .. حسنا سترى ما أنا فاعلة "..
كان ما يزال واقفا في ذلك الركن متحفزا لبدء جولة مصارعة عنيفة معي .. فما كان مني إلا أن تقدمت بخطى واثقة وملامح الثبات ترتسم على وجهي رغم أن قلبي كان يرجف .. ويتملكني إحساسا عارما بالفزع والخوف من حدوث أي حركة مباغتة منه فأخرج من غرفته وأنا منهكة القوى و الكدمات والجروح تملآن وجهي، وفاقدة لبضع أزرار من ثوبي وأنتعل بإحدى رجلي حذائي والآخر أكون قد أضعته في مكان ما في تلك الغرفة المرعبة ..
تقدمت قليلا نحو تلك القلعة أو الشيء الأشبه بالقلعة .. الذي صنعه من علب البيبسي الفارغة .. وبطرف إصبعي ضغطت على إحداها فانهارت جميعها وتساوت مع الأرض .
خرجت مسرعة من غرفته وهو منبطح هناك ويصيح بمليء فيه :" لااااا" في حالة انهيار عصبي مؤقت.. عاد بعدها للانتقام مني .
كثيرا ما أشعر بالملل من الدمى التي أملكها فأذهب إلى حجرة عمتي لألعب معها قليلا.
كنت أحيانا أجدها منهمكة بالكتابة فتناولني ورقة و قلما لأرسم لها شيئا .. أي شيء يخطر على بالي في ساعتها ولو كان مجرد خربشات .
فتأخذها و تلصقها على الحائط تصاحبها قبلة على خدي تقول لي : " أحلى رسمة في الدنيا " .
و لا أعلم حقيقة إن كانت فعلا خربشاتي أحلى رسمة أم تشجيعها لي أحلى مزحة ..
كنت يوما أشاهد حلقة من مسلسل الرسوم المتحركة الذي أتابعه يوميا وهمست في أذنها : " عندما أكبر سأتزوجه " .. قصدت بطل القصة . فأجلستني ملاصقة لها و قالت لي : " يا حبيبتي هذا فيلم كرتون .. يقومون برسمه وتلوينه كما ترسمين أنتِ رسوماتك الجميلة .. هو ليس حقيقيا ولا هو إنسانا مثلنا " .
استصعب علي فهم ما قالته .. بل صُدمت حقا بهذه الحقيقة التي أبدا لم انتظر سماعها ..
" فيلم كرتون ؟؟ .. رسم بالقلم والألوان ؟؟ .. هو ليس فارس أحلامي ؟؟ .. ليس إنسانا مثلنا ؟؟ .. مجرد رسم ؟؟ " .
وكانت الضربة القاضية لعاطفتي و مشاعري المولودة حديثا نحو هذا الرسم المتحرك .. كانت صفعة على وجه التلفاز .. وأول صدمة في حياتي .
في المساء وقبل النوم لابد لي أنا وأخي من بعض جولات المصارعة الحرة.. سلاحي فيها الوسائد وسلاحه العضلات .. هي ليست عضلات بمعنى عضلات تلك التي يملكها ضخام الأجساد .. لا يا أصدقائي .. بل هي بروز عظمي لزندين يشكوان ضآلته ..
أقذفه بوسادة فيلوي ذراعي .. أقذفه بأخرى فتصيب رأسه أو بطنه .. ويصيبني بسيل من اللكمات .
وفي مرة أصاب عيني فصرخت باكية من الألم . جاء أبي لاستطلاع الأمر، فوبخنا و هددنا بحرماننا من نزهة آخر الأسبوع .. وفعلا تم الحرمان .
أفكر كثيرا في هذا النوع من السياسة المتبعة لمعاقبتنا .. سياسة الحرمان .
" تُرى .. هل ستستمر على مدى السنوات القادمة و نُحرم من أشيائنا المفضلة ؟؟ .. أم هي سياسة مؤقتة حتى يتم تقويمنا بشكل إيجابي وصحيح لتمر طفولتنا على خير وسلام ؟؟ " ..
لا أعرف !! ..
كل ما أعرفه الآن بأني عندما أكبر سأكون قوية كفاية لأقدر على لكم أخي و تعليمه درسا لن ينساه .
" متى سأكبر ؟؟ " .
*************************************
يُتبع ..
حقوق الأغنية محفوظة للمطربة اللبنانية ماجدة الرومي*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق