الجمعة، 29 أبريل 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة الرابعة )




تاتا .. حبة حبة*
الجزء الثاني







أخي العزيز يحبني كثيرا أعرف ذلك جيدا ، لكن طريقته في التعبير عن محبته عنيفة و ذكورية جدا .. فهو يحملني بقوة ويُقبلني بعنف حتى يكاد خداي يتقطعان من تقبيله ثم يطرحني أرضا بسرعة خاطفة قبل أن يجيء أبي فيوبخه لحمله لي . أخي ما يزال صغير السن ، يكبرني بثلاث سنوات فقط ، وخطر علي أن يرعاني أو يحملني فهو أيضا بحاجة لمن يرعاه و يوجهه .
أحيانا كثيرة أشاركه اللعب بسياراته و ألعابه، لكنه سرعان ما يسلبني حق اللعب معه فيحملها بعيدا عني ويذهب بها إلى غرفته ، وأبقى أنا وحدي أمارس هوايتي في التقاط الأشياء عن الأرض و إخفائها في فمي .. و أشعر بذروة السعادة عندما أتمكن من بلعها دون أن يلحظني أحد .

كثيرا ما تشاركني عمتي اللعب و المرح ، أحيانا تسمح لي بأن أرافقها إلى غرفتها أو كما أحب أن ألقبها ( الكنز ) .
نعم .. هي كنزا بالنسبة لي .. بجدرانها الزاهية  و صوري أنا وأخي التي زينتها بها .. والدمى الصغيرة و الشموع التي تناثرت في الأركان .
ما يلفت نظري في حجرتها هو هذه الطاولة التي سكنت في الزاوية .. طاولة بيضاء صغيرة نسبيا تناثرت فوقها الأوراق والتي ما أن أبعثرها على الأرض حتى تضحك عاليا و تقول لي " فداكِ كل أوراقي " .. يا الله كم تحبني عمتي .
سأطلعكم على سر صغير .. هي تسمح لي بأن أشاركها أحمر الشفاه .أجل .. فهي تصبغ شفاهي به فأغدو أجمل طفلة رأتها عيناها ، هكذا تقول لي دوما . عمتي قد تكون مفتاحي لعالم الأنثى بكل أسراره و تفاصيله .. فحجرتها بوابتي إلى هذا العالم الكبير .

أما جدتي فحدث ولا حرج .. أجدها تبالغ كثيرا في تدليلي حتى بت أخشى على نفسي من أن يؤثر ذلك على شخصيتي عندما أكبر رغم استمتاعي بهذا الدلال وسعادتي به .
عندما أُطل عليها بوجهي الصغير وملامحي البريئة حتى أرى الفرح يبرق في عينيها و تحملني إلى صدرها فتغرقني بحنانها و عطفها ألاّ متناهيان . كل ما أطلبه تلبيه لي .. وكل ما أريده أراه حاضرا دائما .. لم تقل لي " لا " قط .. حتى عصاها التي تتوكأ عليها صارت أداة لهو ولعبة في يدي .
عندما تحاول أن تمنعني عن أي شيء قد يكون مصدر خطر علي كل ما أفعله هو رسم الحزن على ملامحي وتمثيل البكاء حتى أجدها سرعان ما تلبي رغبتي وتقول لي " لا ، لا تبكي يا حفيدتي الحبيبة .. هيا خذي هذا " ..
 و ما أجمل أن أمتلك ما أريد .. و يا لذة الانتصار .

بالأمس فقط تمكنت من المشي بضع خطوات قصيرة ثم وقعت أرضا ..
كان إنجازا بالنسبة لي عندما وجدت نفسي وقد أفلتُ يداي الاثنتين من طرف المقعد وخطوت أولى خطواتي .. شعرت بأن الأرض بعيدة و واسعة جدا .. وأنا كالأرنب الوليد في أول قفزة له .
إنجازا عززه أهلي عندما هتف الجميع بصوت واحد " شاطرة " ثم علا تصفيقهم و احتل كل مساحات الصوت حولي .
لمحت سعادتهم بي وغبطتهم وسرورهم بإنجازي العظيم هذا حتى صرت أشك بأني على أعتاب المشاركة في سباق ركض قادم لا محالة .
لم أدرك حينها بان هذه الخطوة ما هي إلا بداية لخطوات أصعب و مشوار طويل ابتدأته للتو .
الذي استغربه حقا هو انخراط أخي في الضحك أثناء وقوفي لأبادر بالمشي .. وعندما تسأله جدتي عن سبب هذه النوبة المفاجئة من الضحك يقول لها : " ها ها ها .. إنها كالبطريق " .
تساءلت مرارا عن ماهية هذا البطريق حتى جاء ذلك اليوم الذي كنت فيه أشاهد برنامجا عن عالم الحيوان .. ورأيت هذا المدعو بطريق .
طائر أسود غريب الهيئة ويمشي بشكل يتمايل فيه نحو اليمين ثم اليسار و .. .. .." امممم .. فعلا أبدو كالبطريق .. لا يهم .. اليوم أنا كبطريق .. غدا أمشي كالغزال .. كونوا على الموعد " .
ولن يكون مشيي كمشي الغزال فقط ، بل حتى بصري سيكون كبصر  الصقر .. فقد صار مجال الرؤية عندي أوسع وأكثر شمولية لما يحيط بي .. و قدرتي على الإفلات من أي عوائق قد تعترض اكتشافاتي صارت أكثر سهولة و يسر .
 لا يهم عدد المرات التي وقعت فيها على الأرض ..
ولا يهم عدم التوازن في المشي بعد ..
و لا يهم كم الكدمات و الرضوض التي أتعرض لها يوميا بسبب سقطاتي المتكررة ..
الأهم هو أني أخيرا .. قد مشيت .

************************************

يُتبع ..

* حقوق الأغنية محفوظة للفنانة المصرية الراحلة فاطمة النبوية الشهيرة بــ أحلام

الجمعة، 22 أبريل 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة الثالثة )




تاتا .. حبة حبة*
الجزء الأول






" لا .. كِخْ " ..
جاءني صوت أمي من بعيد ينهرني عن لمس هذا الشيء الصغير الأسود الذي يمشي على الأرض .. لم أعرف ما هو و أمي لم تقل شيئا البتة عن هويته سوى كلمة " كِخ " .. حسنا .. لماذا كِخ ؟؟ .. وما هو هذا الشيء أساسا ؟؟ .. ولماذا ممنوعة أنا عن لمسه ؟؟ .. أسئلة كثيرة أتمنى لو أجد لها إجابات مقنعة غير كلمة (كِخ) ..
منذ بدأت الحبو صرت أكتشف وأستكشف معالم جديدة و أشياء غريبة وبعضها يفاجئني نوعا ما ..
ذات يوم صحوت من نومي في الصباح الباكر قبل حتى أن يستيقظ جميع من في البيت . تمسكت بحاجز سريري الخشبي الصغير ووقفت .. نعم وقفت .. أخيرا استطعت الوقوف بعد أشهر طويلة من الحبو .
فرحت كثيرا وصرت أقفز كالغزال الشارد .. هو شارد بينما أنا محتجزة بين أعمدة هذا السرير .. وجلّ خوفي أن يطول هذا الاحتجاز و بصور أخرى .. !!
تعبت ساقاي من الوقوف فوقعت .. والحمد لله لم أصب بأذى سوى ارتطام رأسي الصغير بطرف السرير . اتكأت على يدي اليمنى كي أتخذ وضعية الجلوس .. وبعد محاولات شتى فشلت خلالها تمكنت أخيرا من تحقيق التوازن .. وجلست .

هدوء تام يسكن حجرتي .. لا صوت ولا همس ولا حركة سوى أصوات العصافير التي تزور نافذتي بين الحين والآخر لتطل علي وتطرق نافذتي تحية لي ..
أخذت عيناي تجولان بين النافذة والباب أنتظره أن يُفتح ويدخل أحدهم لينتشلني من هذا القفص. فترة زمنية طويلة قضيتها وحدي وأنا أردد بيني وبين نفسي " الآن ستأتي ماما .. الآن ستأتي ماما " .. ولكن ماما لم تأتِ .
" ماذا أفعل الآن ؟؟ .. أنا جائعة و أريد الحليب  " . لم يعد أمامي سوى صفارات الإنذار، وصرخت بأعلى صوتي باكية .
ثواني قليلة فقط و فُتح الباب وجاءت أمي .. " اممم .. جميل جدا .. لا يستجيبون لي إلا إذا بكيت .. حسنا .. سترون إذا.. سأستخدم هذا السلاح منذ الآن " .

كل صباح وبعد أن أشرب حليبي وأتناول إفطاري والذي كثيرا أرفضه لطعمه الغريب .
 حسنا .. دعوني هنا أحدثكم قليلا عن طعام إفطاري ..
هو عبارة عن شيء ما طري وليّن فأسناني لم تنمو بعد سوى سن واحد قصير وأبيض جدا بلون الحليب .. سعيدة أنا به رغم معاناتي مع ارتفاع درجة الحرارة بين الحين والآخر .. مرة قالت الطبيبة لأمي بأن ارتفاع الحرارة عادة ما يصاحب نمو الأسنان عند الأطفال و لا يجب أن يقلقها هذا الأمر .. فهو طبيعي جدا.
"حسنا .. لا داعي لأمي أن تقلق أما أنا فلأتألم و أبكي لا يهم .. وا عجبي !! ".
أعود لطعام إفطاري الغريب .. سؤالي المطروح والذي ما تنفك عيناي تسألان أمي عنه .. " لماذا تخلطين هذا الطعام مع الحليب مادمت قد شربته من قبل ؟؟" .. حقا لماذا ؟؟ .. أم المسألة مجرد تنويع لنكهات الغذاء ؟؟ .. هل من إجابة يا سادة ؟؟ .. لا يهم .. عندما أكبر ستجيبني الأيام .

بعد أن أتناول طعامي ( الحليبي ) تأخذني أمي في جولة صباحية خارج المنزل .. تحديدا إلى حديقتنا الخارجية كي ألعب تحت أشعة الشمس الدافئة فهي ستساعدني على بناء عظامي وتقوية بُنيَتي . " قد أشترك في مباريات للمصارعة يوما ما .. من يعرف !! " .
أحب كثيرا اللعب في الحديقة و التمتع بأشعة الشمس والأهم من كل ذلك أكل النباتات ..
نعم .. كثيرا ما أتحين الفرص التي تنشغل فيها أمي بحديث هاتفي أو قراءة صحيفة لأقتطف زهرة صغيرة أو نبتة خضراء و أضعها في كهفي الصغير المدعو ( فم ) . وأقضمها قليلا قليلا وبكل هدوء وأنا أراقب أمي بطرف عيني حتى لا تلاحظني و تسرع في انتشالها من فمي مصحوبة هذه العملية بالكلمة اللغز ( كخ ) .. وترميها بعيدا عني وهي تحملني عائدة بي إلى داخل المنزل .
" لابد وأني سأكون شقية جدا عندما أكبر " .

ذات يوم كنت ألهو بالقرب من أخي أثناء لعبه بمجموعة دمى صغيرة الحجم .. ما لفت انتباهي و حيرني هو الأصوات التي يصدرها أثناء اللعب بتنوعها و رناتها المختلفة . تارة يزأر كأسد وتارة يغرد كعصفور نافذتي .. وتارة أخرى يصرخ كغوريلا . لا تسألوني كيف تمكنت من معرفة مسمياتهم فهي مسألة ذكاء وسرعة بديهة أملكها بشهادة الجميع .
التقطت إحدى الدمى بخفة ووضعتها في مغارة جوفي فصرخ أخي غاضبا و أخرجها من فمي بعنف وقوة أبكتني بشدة فجاءت أمي و نهرته فيما رحت أنا أحبو باتجاه هذا الجحور السوداء المرسومة على الجدار ووضعت إصبعي الصغير داخل إحداها ، وبسرعة البرق حملتني أمي عن الأرض صارخة في وجهي ( كخ ) . " يا إلهي ما هذه الـ (كِخ) التي غدت كابوسا يطاردني طيلة يومي ويقف عائقا بيني وبين استكشافاتي ؟؟!! " ..
لا يهم .. غدا سأتمكن من المشي و أعدو بسرعة البرق و ليمسكوا بي إن استطاعوا .


***************

يُتبع ...

* حقوق الأغنية محفوظة للمطربة المصرية الراحلة فاطمة النبوية الشهيرة بـ أحلام

الجمعة، 15 أبريل 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة الثانية )




يلا تنام يلا تنام .. لادبحلها طير الحمام*
الجزء الثاني





اليوم بلغت من عمري الشهر .. أنا في بيتي الآن و محاطة بجميع أهلي .. ما تزال الرؤية عندي غير واضحة بعد .. ولكن أستطيع الربط بين الوجه وبين ما كنت أسمعه من أصوات عندما كنت في بطن أمي  قبل أن آتي إلى هذه الحياة ..

منذ وصولي إلى البيت استغربت من الأوضاع التي أنا فيها .. أحس بأنني كالدمية أنتقل من يد إلى أخرى دون أي اعتبار لمشاعري أو احتراما لفترة نومي .. دائما يزعجوني .. وعذرهم الوحيد الذي أسمعه  دوما .. " كم هي جميلة و رائعة دعوني أحملها " .. وفجأة أرى نفسي محمولة على الأكتاف .. ويلومونني إن بكيت أو صرخت .. فهم لا يعرفون بأنني أعبر عن مشاعري المكبوتة وغضبي المتأزم لأنهم حرموني من أبسط حقوقي وهي النوم ..

هذه السيدة أعرفها وقد سمعت صوتها المرتجف من قبل .. أها.... إنها جدتي .. ولكن .. لم شكلها هكذا ؟؟  وجهها مليء بالحفر الطولية والعرضية .. وبضع أشياء بيضاء  في شعرها .. من فعل بها كل هذا ؟؟ .. أتمنى لو أجد إجابة لهذا السؤال الذي بات يؤرقني في كل مرة تحملني بين يديها ..
كثيرا ما أجدها تمسح على رأسي و لا أعرف لماذا ..أخشى ما أخشاه هو قصها لشعري ..
ها هي قادمة لتحملني .."  يا إلهي .. ماذا ستفعل الآن ؟؟ "..
 لا لم تفعل شيئا ..الحمد لله .. فقط قبّلت جبيني المليء بالقشور .. جات سليمة ..

والآن ها قد جاء هذا الضخم ذي الصوت المرعب والقوي .. مهلا .. إنه يدنو مني ليقبلني .. ماذا ؟ ماذا يقول ؟ " أنا بابا يا حلوتي " ..أجل .. إنه أبي الحنون .. أبي الذي ما أن أكون  بين يديه حتى أشعر بالطمأنينة .. أشعره ظهري الصلب الذي أستند عليه .. أشعر بأصابعه وهي تمسح على أطراف أصابعي كأنها تمهد لي طريقا سأمشيه غدا و تقودني نحو مستقبلي القادم وأنا مغمضة و واثقة بأنه الأمان ..

لاااااااا.. جاء أخي الشرير ..يا ويلي .. متى سأتمكن من التحدث لأخبر الجميع بما يفعله بي أثناء انشغال أمي عني ..
إنه ينتهز فرصة نومي  فيقرصني ويشد لي شعيراتي  ويضع إصبعه داخل عيناي الصغيرتين وفتحتي أنفي ..وأنا لا حول لي ولا قوة ولا أستطيع الدفاع عن نفسي ..
لاحظت  أمي اليوم أثر خربشات على خدي وأن إحدى فتحتي أنفي أكبر من الأخرى .. فأعزت السبب إلى أظافري البريئة من التهمة الموجهة إليها .. فما كان منها إلا أن أسرت أصابعي النحيلة الوردية في هذا الجورب الضيق الحار وسجنت جسدي الغض في شرشف أبيض ..
يا إلهي .. كم أنا حزينة وجائعة ومختنقة  الآن سأصرخ بمليء فمي ..
جاءت أمي راكضة نحوي .. كم هو جميل لفت الانتباه .. وكم هي جميلة وحنونة .. ستقوم بتغيير (........) .. لن أقول .. فأنا خجولة ..
والآن سترضعني فأحس بالدفء والنعاس .. ولكن ما أن أستسلم للنوم حتى تصل إلى مسامعي كلمات جارحة ومهينة وتمس كبريائي .. أسمعها تقول .."وأخيرا نامت " ..
ما هذا ؟؟ .. هل أنا مزعجة إلى هذا الحد ؟؟  حسنا سأصرخ مرة أخرى ..

أخيرا جاءت عمتي راغبة في تنويمي .. كم أحبها و أحب تدليلها لي .. ما أن تراني أبكي حتى تركض لاهثة نحوي كي تحملني وتقبلني بكل حنان .. تداعبني وتلاعبني و تغني لي ..
كثيرا ما تُدخلني معها في عالمها الخاص . حجرتها الكبيرة و المليئة بالأشياء الملونة .. دببة صغيرة و صورا لي تملأ جدرانها و أركانها و زواياها .. أنا واثقة بأنني عندما أكبر ستكون عمتي صديقتي و ستسمح لي مشاركتها أشياءها الخاصة .. و طبعا سأستغل ضعفها نحوي لأحقق غاياتي و أحلامي الصغيرة .
حملتني بطريقة جعلت من كتفها وسادة لرأسي الصغير وبيدها راحت تربت على ظهري ربتا خفيفا و رقيقا .. و دارت بي في أنحاء حجرتي الوردية حتى نعست .
وضعتني بهدوء تام في فراشي الدافئ وأرخت الغطاء القطني على جسدي الصغير كي لا أشعر بالبرد .. أطفأت الأنوار عدا مصباح صغير في زاوية حجرتي حتى لا أخاف .
لم انم .. بل تصنعت النوم لا أكثر ..
لا أفهم لِم يفرضون علي النوم فرضا كأنه أمر بديهي لرضيعة في عمري ؟! .. حتى و إن لم أكن أشعر بالنعاس !! ..
بقيت مستيقظة أتأمل هذا الشيء الذي علقوه فوق رأسي .. أشكالا غريبة تصدر موسيقى جميلة ويدور ويدور ويدور حتى يدور رأسي معه .. وأستسلم للنوم  .. أو أدوخ ؟؟ .. لا يهم .. فالأمر سيان .

لاااااا .. لقد عاد أخي المتوحش ليشد شعيراتي ..
حسنا .. غدا سأكبر وأنتقم منه وأشد له شعره الكث . وحتى أكبر لن أفعل شيئا سوى أن أرضع وأنام وأصرخ .. وطبعا سأدخل في دوامة من التنقلات بين الأيادي .. و قرصات أخي الشرير .. والانتقال من غرفة إلى أخرى .. ومعاناة لا أول لها ولا آخر مع الجوارب الضيقة و الشراشف الخانقة .. وإحساس بالدهشة والتساؤل عن سر تأملات جدتي لشعيراتي  القليلة ومسحها على رأسي الصغير الذي ما أن يأتي المساء حتى يلف ويدور ألف مرة قبل أن أنام .
 يا إلهى ..

متى سأكبر ؟؟ ..



*************************************
يُتبع ...

حقوق الأغنية محفوظة لـ فيروز*

الأربعاء، 13 أبريل 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة الأولى )

يلا تنام يلا تنام .. لادبحلها طير الحمام*
الجزء الأول







" وااااااااااء " ..  وكانت صرختي الأولى ..

كيف لا أصرخ أو أبكي و أنا أُجر جرا للخروج من شرنقتي الدافئة داخل حضن أمي ؟؟ ..
كنت سعيدة جدا بعالمي الخاص .. كنت أسبح و أعوم وحدي بلا شريك أو دخيل .. أما الآن .. ها أنا هنا  وسط هذه الكومة من الأجناس الغريبة ..
أراهم يحيطون بي من كل الجهات و كأنني كنز ثمين كل منهم يريد الحصول عليه .. و هذا الطبيب المجرم الذي انتزعني من عالمي الآمن بقوة وبلا رحمة أخذ يخبط على ظهري و كأني لست بشرا مثله لي خلايا عصبية و أشعر بالألم ..!! ..
وليس هذا فقط .. لقد رأيته بأم عيني الصغيرتين المدورتين وهو يمسك بأداة الجريمة ويقطع مني حبلا طويلا كان يصِلني بأمي .. أمي التي ما أن رأتني واحتضنتني حتى راحت تبكي .. صرت أنا أيضا أصيح بعنف و لتهتز ببكائي جدران المستشفى ..
سيل جارف من القبل راحت أمي تغرقني به .. ودموعها تترقرق على وجنتيها كجدول صغير .. لماذا ؟؟ ..
سألت نفسي كثيرا هذا السؤال وأنا أتلوى بين يديها و أخرج لساني لعشرات المرات في الدقيقة ..
قد تبكي فرحا بي .. أو خوفا علي من هذا العالم الجديد الكبير .. أو أنني جئت وجاء الهم معي ؟؟ .. لا أعلم ..  
ما تزال تحتضنني بكل رقة و تقبّل جبيني الصغير الندي بكل حنان .. ثم تضمني كثيرا إلى قلبها و كأنها تريد أن تعيدني إلى داخلها مرة أخرى ..
" هيهات يا أماه .. فقد فات الأوان " ..

بعد دقائق انتشلتني من حضنها امرأة غريبة مُبهمة المعالم حتى لا أكاد أرى عينيها لصغرهما العجيب ثم وضعتني فوق طاولة صغيرة وراحت تسكب على جسدي الناعم ماءً ساخنا .. " ما هذا ؟؟ .. هل أنا قذرة إلى هذا الحد حتى تغسلني بماء ساخن ؟؟ .. " وأشحت بوجهي عنها نحو الجهة الأخرى علّني أرى أمي ..
" ولكن ؟؟ .. ما الذي أراه الآن ؟؟ " ..
يا إلهي كم أنا بشعة .. لماذا تبدو ملامحي بهذا الشكل ؟؟ .. أنفي الذي تساوى مع خداي المتورمتان .. وشفتي التي زاد انتفاخها .. وهذه الطبقة البيضاء والقشور الغريبة التي غلّفتني  من رأسي حتى قدمي .. وعيناي تروحان وتجيئان .. و .. و .. هل هذا حَوَل ؟؟ .. لاااا !! ..
" هل سأكمل بقية حياتي بهذا الشكل ؟؟ " ..

بعد أن انتهت هذه المرأة العجيبة من تغسيلي راحت تلبسني أشياء غريبة ..
" تُراها ما هي فاعلة بي ؟؟ " .. لقد أقحمت فخذاي الصغيران داخل شيء قطني كبير ثم ضغطت على خصري النحيل الرقيق بحزام عريض .. " اممممم .. ما هذا يا ترى ؟؟ " ..
جريمة .. جريمة !! .. و كلما يزداد صياحي قوة كلما تزداد هي تكبيلا لي داخل هذه الألبسة الغريبة .. هي ناعمة ودافئة لا أنكر ذلك أبدا .. لكنها تقيدني ولا أستطيع معها الحراك .
" هل ستستمر حياتي على هذا المنوال ؟؟ .. دائما مكبلة ؟؟ عجيب !! .. " ..

صرت أتململ كثيرا وأنا بين يديها .. جُعت أنا وهي ما تزال تحشرني داخل هذه الأقمشة بلا هوادة ولم ينقذني منها سوى صرخة مدوية صرختها .. وبسبب هذه الصرخة الدراكولية حملتني فورا إلى أمي كي تغدق علي حنانها و تروي عطشي  لحضنها الدافئ الذي يذكرني كثيرا بأيام كنت فيها داخل أحشائها الآمنة ..

غفوت قليلا وهي تحيطني بيديها .. ولكن لم أغفو حقا كما بدوت لهم ..
كنت أسترق السمع لحديثها مع هذه المرأة العجيبة التي أخذتني من حضنها للمرة الألف منذ ساعة مولدي  و وضعتني داخل فراش ناعم يحيط به الزجاج من كل جانب .. و كأنها تقول لي " سيبقى هكذا عالمك .. سهلا أن تريه و تعيشيه وصعبا أن تكسري قيوده التي ستحيط بك .. رغما عنكِ " ..
 ثم سارت بي خارجا دافعة بمخدعي نحو عالمي الجديد الغامض الكبير .. لتبدأ معه حياتي  !! ..

أدخلتني حجرة كبيرة و رائحة التعقيم تفوح منها كحارسنا الأمين من الجراثيم .. " لعلهم نسوا بأن الأمان من الله و هو حافظنا الوحيد من كل سوء " ..
نعم نعم .. لا يخدعكم صغر حجمي الذي لا يتعدى حجم نصف الذراع .. لأن عقلي يعي تماما ما هي الحياة ...
حكيمة أنا صدقوني ..
استقر مخدعي في ذلك الركن القصي من الحجرة .. حاولت أن أفتح عيناي أكثر لأتمكن من التركيز مع ما يحيط بي .. فصُعقت من هول ما رأيت ..
انتشرت الأسرّة الملونة حولي وداخل كل سرير نامت أجسادا صغيرة تُعادل صغر حجمي أو تكبره قليلا جدا .. جدا ..
لم تكن هنا المشكلة .. المشكلة الأعظم هي في أصوات البكاء الذي أخذ يصدح في الأرجاء .. و كأن أصدقائي في سباق بكائي مراثوني لا مكان فيه لمغلوب .. وكلهم سيَغلبون ..
" يا إلهي ما هذا الإزعاج الآن .. والله لقد كنت مرتاحة جدا وأنا في شرنقتي الجنينية الهادئة .. كنت بالكاد أسمع صوت أمي و أهلي .. أهلي ؟؟ .. لماذا لم أتعرف إليهم بعد ؟؟ " ..

إزعاج  وبكاء  و أصوات مبهمة و أحاديث جانبية بين النسوة اللاتي توشحن بالبياض ..يدخلن ويخرجن في مناوبات مستمرة .. على هذه الحال قضيت ليلتي الأولى في هذه الحياة ..

عندما انتصف الليل ساد الهدوء أركان الحجرة .. فتحت عيني بروية و مهل كي أستطلع الوضع و ما آل إليه بعد صخب الساعات الماضية . رأيت جميع أصدقائي نياما إلا واحدا ..
تبادلت معه بضع نظرات قصيرة وابتسمت له ابتسامة عذبة رقيقة و ملت برأسي الصغير نحو الجهة الأخرى .. ليس لشيء محدد بل لأزيح عن جبيني هذا الشعر الكثيف الذي انسدل وحجب عني الرؤية بشكل واضح .. وأيضا كي أكشف له عن عيناي الجميلتان ..
" الأنثى وما أدراك ما الأنثى " ..

أدرت له وجهي مرة أخرى .. فوجدته يصارع هذا القماش الذي كبلوه به هو الآخر وكأنه يريد أن يُريني كم هو قوي و قادر على مواجهة الصعاب .. وكأنه يكشف لي عن عضلاته المفتولة ومنكبيه العريضين ..
شيئا فشيئا استطاع أن يُطيح به على جانب الفراش .. مما دعاني إلى التساؤل حول استطاعته فك القيد و التحرر من هذا القماش الذي كبلونا به جميعنا .. إناثا وذكورا ..هل هي قوة جسدية لا يتمتع بها غير الذكور ؟؟ .. أم هي مسألة تفوق عقلي و تفكير وتدبير أكثر دقة منا نحن الإناث ؟؟ .. أو هي مجرد مقدمات لما سيأتي به المستقبل و ما سأواجهه من عقبات وصعاب لن تمر بها سوى الأنثى ؟؟ .. لا أعرف بعد !! .
أزاح عنه الغطاء قليلا بقدرة كالسحر لينكشف لي هذا الذراع الضئيل .. " يا إلهي .. أين العضلات التي تخيلت أني سأراها .. ما هذا الجسد الضعيف ؟؟ .. " ..
أشحت بوجهي عنه نحو السقف كي أنام .. " يا للمظاهر الخداعة ويا للقوة المستترة التي يتمتع بها هذا الذكر .. ماذا بعد سأرى فيكِ أيتها الحياة ؟؟ " ..
أرخت جفناي الصغيران .. و نمت ..


***********************

يُتبع ................

* حقوق الأغنية محفوظة لـ فيروز