يا دبلــة الخطوبــة
عروس تختال .. بقامة ممشوقة وجمال أخاذ .. باقة أزهار في اليد اليسار قد يحتار رائيها أيهما الأجمل .. هي أم حاملتها .. والكف اليمنى تحتضن كفا تطابقت بالحس والدفء والتقاسيم معها .. طرحة شفافة انسدلت تكاد تخفي خلفها ملامح سعيدة .. عينان تلمعان وفم مبتسم ونظرة حالمة ..
لحظة تساوت فيها خطواتي مع خطوات شريك حياتي.. ومن اختاره عقلي وقلبي لأتقاسم معه مستقبلا قادما بحلاوته وبكل ما فيه .. سرت معه نحو المنصة .
كنت شبه مغيبة عن كل من حولي .. أكاد لا أميز شيئا من ما يحيط بي .. لا الموسيقى ولا الضيوف ولا الوجوه ولا حتى أين أنا ..
كان عقلي مشتتا وغائبا .. كنت كمن شُل تفكيره وتوقف تماما .. " يا الله .. أنا عروس ؟؟ " ..
أجل عروس ..
بالأمس القريب أنهيت دراستي الجامعية .. كانت من أجمل مراحل عمري الفائت .. عندما نمى إدراكي وصُقِلت شخصيتي وأصبحت لي أهدافي وطموحاتي في هذه الحياة ..
اتسعت دائرة صديقاتي وتطورت شخصيتي وتحولت من مجرد صبية طفلة الجسد وضيقة الأفق .. لفتاة شابة وناضجة ذات فكر متسع ونظرة عميقة لمعظم الأمور ..
هدأت كثيرا عما كنت عليه سابقا وأنا طفلة ومراهقة .. أصبحت أكثر اتزانا وأكثر معرفة .. ولكن لا زلت أعاني من بعض الخجل والحساسية المفرطة في مشاعري .. حاولت كثيرا أن لا تسيطر علي أو تتمكن من شخصي .. وعبثا حاولت .. أحيانا أفكر بأنها خلقت معي ونمت معي وكبرت معي وتأصلت جذورها داخل روحي وتشعبت و تشعبت حتى أصبحت أنا أخرى داخلي .. تتعبني كثيرا .. وترهق من حولي أيضا عند تعاملهم معي ..
ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي خُطبت فيه ..
كم بكيت خائفة ولم أعرف لماذا وما الداعي لكل ذلك البكاء وقتها .. صديقاتي أعزين السبب للمفاجأة أو خوفا من المجهول .. أو أن كلمة زواج وحدها كفيلة ببث الرعب في نفس أي فتاة ؟؟ .. لا أعرف.
كنت كثيرا ما أستمع لأحاديث بعض المتزوجات منهن وخلافاتهن مع أزواجهن .. و فشل بعضهن في تجربتهن الزوجية. كان يتملكني القلق والخوف من هذه التجربة الغامضة و الحياة الجديدة التي ستقبل عليها أي فتاة كُتب لها الزواج يوما .
لم يكن هاجسا بالنسبة لي .. كنت دائما ما أعتبره قرارا اختياريا وليس مصيريا ، على الرغم من كثرة الأقاويل حولي بأن الفتاة مصيرها بيت زوجها لا محالة . فكنت أعترض بشدة و أدافع عن رأيي بحزم و صرامة ترى فيها صديقاتي عنادا أتصف به.
لم يكن عنادا مثل ما هو قناعة راسخة في داخلي بأن كل شيء كتبه الله لنا كائن لا محالة.
ترددت كثيرا بشأن الموافقة .. بت أقضي الكثير من الوقت أجلس على أرجوحتي أفكر .. و أتأرجح معها بين القبول والرفض .
حتى أتى ذلك المساء الذي كنت فيه مستلقية على فراشي و مشاعري المختلطة تتضارب وتتصارع داخلي .. كنت أجهل كيف أفكر وماذا أقرر .. عندما قرع باب غرفتي .
جاءت إلي تحضنني وتُريح رأسي على صدرها فأشتم رائحة الدفء والعطر لتشعرني بالأمان كعادتها دائما .
جدتي .. رغم شيخوخة جسدها و تيه فكرها بعض الأحيان .. لكن ما يزال قلبها يحمل الدفء وعبق الحب والحنان ذاته اللذين طالما أشعرتني به طيلة حياتي .. تجيء دائما عندما أكون في أمس الحاجة لمن يرشدني لطريق أسلكه ومصير أقرره .. تأتي لتنتشلني من حافة يأسي وضياعي .. وفي حضنها الدافئ أنسى كل شيء .. ويهون كل شيء .. وينجلي كل شيء ..
قالت لي يومها .. " حبيبتي .. مررت بما تشعرين ومرت والدتك به من قبلك .. هو شخص رائع وذي مواصفات تتمناها كل فتاة .. استخيري الله .. وأيا كان قرارك نحن معك ونحبك .. " ..
وطبعت قبلتها الحانية على جبيني .. وبكفها الدافئ مسحت دمعتي التي انسكبت على خدي .. وخرجت ..
في صباح اليوم التالي .. كنت قد قررت ..
كان نهارا مليئا بالأحداث والارتباكات ذلك اليوم الذي زارنا فيه خطيبي لأول مرة.
صحوت من نومي على جرس منبهي المزعج .. كبست زر الإيقاف لأسكته.. ثم زرعت وجهي في الوسادة لأعود إلى النوم.. و فجأة.. و كأن السماء انشقت وألقت بمائها البارد فوق رأسي .. و كأن الغيم رمى بسهام برقه نحوي .. و كأن الرعد اختزل كل غضبه فألقاه على سمعي .. قفزت عن سريري كصعقة كهرباء قذفت بي صوب النافذة .
كانت تمطر..
" لا .. لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها السماء تمطر .. على العكس .. فقد كنت أنتظر الشتاء من عام إلى آخر فقط كي أستمتع بمطر السماء .. ولكن اليوم بدا كل شيء مختلفا.. و كأني أعيشه للمرة الأولى ".
نظرت إلى وجهي في المرآة وهالني المنظر ..
" من أين جاءت هذه الهالة حول عيني ؟؟ .. وما هذا الشعر الجاف .. و ما هذا الوجه الشاحب ؟؟.. يا إلهي .. لا .. ليس اليوم ".
نعم .. هكذا استقبلني الصباح .. أو هكذا استقبلت أنا الصباح .
حالة استنفار عاشها جميع من في البيت ..
قضيت طيلة النهار و أنا أعاني من التشتت الذهني والضياع الزمني ..
بين المرآة و خزانة الملابس و بعثرة الزينة و تصفيف الشعر و أقنعة البشرة .. كنت كالفرس التي تعدو من سهل إلى سهل .. كان كل شيء يسير على خير ما يرام حتى استقبلت تلك المكالمة من صديقتي .. وليتني لم أجب هاتفها .. فبعدها لم يعد أي شيء سهلا كما كان ..
قائمة من النصائح و كم هائل من الإرشادات أثقلت مسامعي بها .. وكأنها تملي علي محاضرة عن أصول الإتيكيت واللباقة الاجتماعية .. و ما أثار حنقي فعلا كانت التوصيات الغريبة عن كيفية التبسم والحديث و التحرك و المشي و حتى كيف أتنفس.. و جميعها تنصَب في قائمة ( الانطباع الأول ) ..
أثارت استيائي فعلا .. فأنا دائما ما كنت عفوية بلا تمثيل ولا حركات مدروسة ..
أبتسم لأني أشعر بحاجتي للابتسام .. و أغضب لأني في حاجة إلى الغضب .. و أتكلم متى أحسست بأني لابد وأن أتكلم .
لم أكن يوما رهينة للتصنع و التكلف أو التقنع وارتداء الزيف.
" كوني كما أنتِ .. فليحبك من يشاء وليكرهك من يشاء " .. شعاري في الحياة .
مرت الساعات على عجل .. حتى حانت لحظة اللقاء ..
بخطوات خجولة و بلعثمة طفلة في أول بوح لها .. مددت يدي لتصافح يده .. ابتسمت وابتسم .. تشابكت الأصابع .. نبض القلب .. و وقع الحب.
كانت ثواني معدودة وهتف قلبي بكل غبطة .. " نعم .. هو من أريد ".
تحدثنا سويا حديثا عابرا .. عبرت معه أزمانا وأزمانا .. وكأن لقاءنا كان منذ أزل بعيد .
كثيرا ما كنت أقرأ عن تعارف الأرواح و تآلفها حين اللقاء حتى أن بعضا من صديقاتي لم يأخذن يوما حديثي على محمل الجد .. بل كن يسخرن من شاعريتي و رومانسيتي الطافحة ..
" أنا فقط أنظر إليه بمنظور روحاني .. فكل شيء يتعلق بالمشاعر و العواطف هو مسألة روحية لا أكثر ولا أقل " .
تريدون الصراحة ؟؟ .. في تلك الليلة لم أنم جيدا ..
قضيت الليل أتقلب على سريري أفكر في ما سيحمله لي المستقبل تارة، و في ما أتخيله تارة أخرى .
اليوم سأواجه واقع هذه الحياة ومعنى المشاركة الزوجية .. بعد سنوات من الإنفراد بكل شيء يخصني .. ما من مشاركة من أي شخص ولا حتى منازعة فيما أملك . أما الآن فقد حَلّ على حياتي نصفا آخر .. إما أن يصبح جزءا من ذاتي أو سيبقى دائما مجرد اسم كما دخل .. سيبقى .
بقيت أنفض عن تفكيري هذه الوساوس والهواجس السلبية لأطمئن نفسي بأن الله قد اختار لي هذا الإنسان وسنوفق حتما طالما وُجد الانسجام و خُلق في أول لقاء لنا معا .. هذا القبول الذي طرحه الله في قلبينا ما هو إلا إشارة إيجابية عن مدى التوافق الذي سيكتمل بيننا .
" غدا .. غدا .. غدا .. متى ستأتي أيها الغد كي أرتاح ويهدأ بالي ؟؟ .. متى ستمضي السنوات لأعرف هل من اخترته زوجا وشريكا سيبقى معي لبقية العمر ؟؟ .. تعال يا بُكرة اشتقت إليك .. " ..
و انبلج نور أول صباح من صباحات الغد ..
*********************
مرت الستة أشهر الماضية كلمح البصر ..
مشاعري نحو خطيبي و محبتنا وعلاقتنا التي ازدادت أواصرها هونت علي الكثير من صعوبات تلك المرحلة التي مررت بها .. و حال بيتنا انقلبت رأسا على عقب .. للأجمل والأحلى والأفضل .
قضيت مجمل تلك الأيام في التجهيز لحفل زفافي والبحث عن القاعة المناسبة لإقامة الاحتفال .
كنت أقضي ساعات النهار في التسوق مع صديقاتي و غالبا مع والدتي و ترافقنا عمتي الغالية. كان لوجودها إلى جانبي في تلك الفترة الحرجة لذة خاصة .. و بالنسبة لي كانت مثالا حيا أستقي منه خبرات جديدة و أتعلم من خلالها كيفية استغلال الوقت و تجييره إلى صالحي .. حتى لا تنقضي الأيام عجلى دون أن أقضي جميع مستلزماتي .
تزوجت عمتي قبل عشر سنوات .. كنت أرافقها للتسوق و قضاء الكثير من حاجياتها .. فكانت دائما تردد على مسامعي عبارة " وجهك خيرا علي " .. ولم أكن أعرف السبب .. ثم لا حقا أخبرتني بأني عندما أكون برفقتها تسير أمورها بيسر و سهولة .. و تماما كما تريد هي.
" تفاءلت بي .. و اليوم أتفاءل بها " .
افتقدتها كثيرا .. غادرت البيت تاركة خلفها حاجياتها و ذكرياتي معها .. غادرت جدران حجرتها التي مافتئت تئن من اشتياقها لها كما يئن قلبي بعد غيابها .. و كما غادَرَت سأغادر أنا .. قريبا .
جاءني يوما أخي .. من كان وحشا بشريا في يوم من الأيام .. وقد أخفى خلف ظهره شيئا ما .. طبع على خدي قبلة .. وأعطاني هدية .. قال لي افتحيها عندما أخرج .. وقبل أن يغلق باب الغرفة استدار نحوي وقال : " في بيتنا عروس " وغمز بعينه لي وابتسم .. وأقفل الباب وراح ..
فتحت الهدية .. سلسال جميل ورائع محفور عليه اسمي ومرصع بالألماس .. أتعرفون بم كانت مغلفة ؟؟ بذلك القماش الأسود الذي كان يلفه حول عينيه مقلدا سلاحف النينجا .. قبل سنوات من الآن .. عندما كنا صغارا نتعارك بالأيدي .. فرق بين اليوم والأمس .. اليوم صار أخي و صديقي وسندا لي في هذه الحياة.
ارتديت السلسال.. وقفت أمام مرآتي أتأمله .. عندما انهمرت دمعاتي من عيناي ولمعت على خداي .. لمعة الألماس على نحري .. وبكيت .
آخر ليلة أنام فيها على فراشي .. كل شيء في غرفتي مبعثر .. حقائبي وملابسي و أشيائي .. كل شيء .
تمددت على فراشي وأخذت أتأمل جدران غرفتي .. هذه الجدران التي احتوتني واحتضنت أيامي وأخفت أسراري وراقبتني في دخولي و خروجي .
صوري .. خزانتي .. أوراقي .. أقلامي .. حاسوبي الشخصي .. طفولتي .. نضجي .. صباحي ومسائي .. مرضي و صحتي .. بكائي وفرحي .. عمرا بأكمله ..
سأترك كل هذا وأرحل عن هنا لأبدأ حياة أخرى ومستقبلا آخر ومرحلة أخرى مع نصفي الآخر.. أتمنى أن أكون معه سعيدة.
وصلنا إلى المنصة .. وخزه خفيفة أحسستها بكفي .. عندما نبهني شريكي كي نقف .. استفقت من أفكاري على ابتسامته الرقيقة ونظراته المليئة بالحب .. واقفا بجانبي .. تحتضنني عينيه وروحه .. شعرت حينها بأن كل الدنيا ملكي .. أنا وحدي ..
أبي وأمي و أخي ، جدتي وعمتي .. جميعهم إلى جانبي .. ألمح في أعينهم دموع الفرح .. وعلى شفاهم بارقة السعادة وأنا أحضنهم بكل الحب .. عندما سطع ضوء الفلاش ...
والتقط قلبي صورة.
*****************************************
يُتبع ..
* حقوق الأغنية محفوظة للفنانة شادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق