الجمعة، 10 يونيو 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة العاشرة )




* ماما زمانها جاية


امتلأ بيتي بالصخب والضجيج .. البالونات بعضها معلق على السقف وعلى الجدران والآخر ملقى على الأرض .. وبعض البقايا تناثرت في الأرجاء .. ضحكات وصراخ الأطفال وأصواتهم تداخلت مع أصوات الأغاني التي انتشر صداها في أرجاء البيت .. حديقتي الخارجية مليئة بالأطفال وألعابهم .. ضجيج في كل حدب وصوب ..
عند الثامنة مساءا .. أُطفئت كل الأنوار .. وعلى صوت الأغنية .. "هابي بيرث داي تو يو" .. وضوء لهب الشمعات يتراقص بفرح ليشارك ابنتي فرحتها ..

وكأنها بالأمس فقط أشرقت أنوارها في حياتي .
أذكر يوم أخبرتني الطبيبة بنبأ حملي .. لم تسعني الدنيا فرحا بها .. كم انتظرت ذلك اليوم ..
أول نبض في أحشائي .. واستدارة بطني .. وكِبر حجمها يوما بعد يوم .. فترة الوحم .. وإرهاق التسعة أشهر وثقل جسمي وزيادة وزني .. واختلاف طفيف في ملامحي .. كل ذلك وغيره .. دفعته ضريبة لأحلى فرحة في حياتي ..
وجاءت إلى الدنيا ..
أول لمسة .. أول نظرة .. أول صرخة بكاء .. أول احتضان .. أول ضحكة .. أول بسمة .. أول زحف وحبو .. أول خطوة .. أول سن .. أول كلمة نطقتها .. أول يوم في المدرسة .. أول درس .. أول عقاب .. أول هدية .. أول واجب مدرسي .. أول تكاسل .. هي أول قصة وحكاية ..
كل هذا مر كعبق زهر في ذاكرتي وهي تنحني لتطفئ شمعتها الثامنة .

أنجبت بعدها اثنين.. في سنين متقاربة .. توقعت بأن هذا سيكون أفضل لهم .. حتى يكبروا معا .. وكي يتقلص جهدي في التربية .. ولكن اكتشفت بأن التعب والجهد صارا مضاعفين ثلاث مرات .. كل شيء تضاعف .. حتى الحب والخوف والترقب والقلق والمسؤولية . توقعت أن أتعلم معها أساليب التربية والتقويم، على اعتبارها الأولى فستكون هي الأساس ومعها سأبني مفاهيم الأمومة وأعرف معناها .
ولكن .. و مع كل طفل يأتي أبدأ مشواري من جديد .. وأتعلم من جديد .. وأصير أما من جديد .

لا أنكر بأن حياتي تغيرت كليا منذ ولادتها وولادة بقية إخوتها .. انتقلت من دنيا إلى أخرى أكثر جمالا وسحرا .. تغيرت نظرتي إلى الحياة، صرت أراها بمنظارهم .. وأوافق وقتي مع أوقاتهم .. تغيرت شخصيتي واهتماماتي وأولوياتي ..
نمط أيامي كله تغير .
حتى والدهم .. أصبح كاهل المسؤولية على عاتقه أكبر .. وصار يسبق حاجاتهم على حاجته .. ورغباتهم على رغبته .. والسعي على تحقيق أحلامهم قبل حلمه .. لم لا !!.. وأبناءنا هم الحلم ذاته .. هم الأمل .. هم المستقبل الذي نبنيه ونسعى للوصول إليه وتحقيقه بكل ما نملك من إحساس وحب و عاطفة نستشعرها نحوهم ..
" ما أجمل الوقوع في حب طفل .. والأجمل عندما يكون هذا الطفل ابنك .. دمك و روحك .. قطعة منك خُلقت منك .. عزف قلبك من نبضاته " .
قبل زواجي عندما أجتمع مع صديقاتي الأمهات كنت أرسم لهم ملامح من أمومتي المستقبلية .. فأقول لهم : " أتمنى لو أنجب أطفالا توائم .. اثنان أو أربعة توائم دفعة واحدة " . ولا أتلقى منهم سوى جملة واحدة : " أنتِ مجنونة .. ليس سهلا أن تنجبي طفلا واحدا .. كيف بكِ تطمحين لتوائم ؟؟ .. غدا ستتزوجين و سنرى " .
الآن تزوجت و أنجبت ولحقت بالرَكب .. وصرت أردد ما كن يرددن.
" ليحفظ الله لي أبنائي من كل شر .. هم قطعة مني و إن لم يولدوا توائما " .
اسمحوا لي أيها الأعزاء بأن أقص عليكم أحداثا أشبه ما تكون بفيلم ملحمي ضخم .. مليء بالإثارة والتشويق.. من إخراجي و إنتاجي والبطولة المطلقة لصغاري.. و زوجي فيه ضيف شرف.
يبدأ نهاري عادة بمناورات عسكرية مع الأبطال الصغار، كالجندي في أرض المعركة .. أركض من حجرة إلى أخرى لأوقظهم من نومهم ثم أقوم بتحضير إفطارهم و إطعامهم.. وبعدها مساعدتهم في ارتداء ملابسهم و تجهيزهم للمدرسة .
غلبة وجلبة و فوضى .. بكاء و عناد و شروط لا أول لها ولا آخر يفرضها علي الصغار عند اختيار الطعام الذي سيرافقهم إلى المدرسة . أحيانا يخضعون لي طائعين .. و كثيرا ما كنت أنا الخاضعة .. " قلب الأم أيها البشر " .
كثيرا ما يساعدني زوجي في هذه المهام .. وبعض الأحيان تساعدني الخادمة لسبب بسيط .. فهو ما يزال نائما.

بعد ذهابهم إلى المدرسة و مغادرة زوجي إلى مقر عمله .. يبدأ يومي ..
نسيت أن أخبركم بأن أسرتي الصغيرة تنتظر ضيفا سيحل عليها مطلع الشهر المقبل .. " نعم .. أنا حامل " .. ولذا انا اليوم اقضي إجازتي الاضطرارية من العمل في جنتي .. بيتي ..
عادة ما أقضي نهاري مع بعض الصديقات ربات البيوت .. و أغلب أيامي أبقى في بيتي .. أهتم بشؤونه و أضع عليه لمساتي النهائية بعد أن تنتهي الخادمة من تنظيفه .
" ست بيت درجة أولى " .. بشهادة زوجي.

ذات ضحى .. بينما كنت منهمكة في القراءة رن جرس الباب، كانت صديقتي جاءتني زائرة أو (هاربة ) لوصف أكثر دقة.
تحادثنا سويا لبعض الوقت ثم راحت تبكي قهرا، أقلقتني بل أخافتني حد البكاء معها .. لبعض الوقت ثم أفاضت لي عما يعتصر قلبها ألما .. " زوجي تزوج علي " .. وانهارت تماما .
لم أتفاجأ ولم أستغرب أبدا زواجه بأخرى غيرها ليس لعيب فيه أو أنه كبعض الرجال الذين لا تكفيهم امرأة واحدة .. بل كانت هي السبب .
كثيرا ما كانت تحدثني عن خلافاتها معه و رغبتها بالانفصال عنه و عندما أسألها عن الداعي لهذا الانفصال المدمر تقول : " مللت منه " .
" مللت منه ؟؟ .. وا عجبي !! .. هل كل حالة ملل تصيب أي علاقة زوجية لابد حينها من انفصال الزوجين ؟؟ ..يا للسخرية " .
ببساطة .. كانت تجسد وبجدارة شخصية الزوجة المهملة لزوجها .. هذا الإهمال الذي ينبذه الرجل ويحسبه إذلالا لشخصه و إلغاءا لوجوده . فعند حضوره تحلق هي في فضاء آخر بعيدا عنه ، وتنغمس في شؤونها الخاصة و أحاديثها مع الصديقات أو السكن خلف ظلال مرآتها .
كنت دائما أنهيها عن ما ترتكبه من أخطاء في حق زوجها وبيتها .. وأحكي لها قصصا من بعض قراءاتي و ما أراه في المجتمع من حولي ، خصوصا وأن زوجها رجل عاقل و يُشهد له برحابة الصدر وسعة الخُلق .. و ليس ممن يرغبون في التعدد أو حتى مغازلة النساء .
" لا أكثر من الإهمال سببا سيدفع زوجك يوما للاقتران بأخرى " .. قلت لها يوما و ما سمعتني .. حتى وقع الفأس في الرأس .. و صار ما صار .

ما حدث معها أعادني بالذاكرة إلى اليوم الذي طلبت فيه من زوجي أن يستقدم لنا عاملة منزلية لتساعدني في أعمال البيت ..
همس لي حينها وبكل حنان : " سألبي طلبك .. فكل طلباتك أوامر .. ولكن عديني لو شعرت يوما بالعطش و اشتقت لرشفة ماء فلن يناولني إياها سواكِ " .. ابتسمت له مدركة حاجته.
تأكدت يومها بأن أي امرأة بإمكانها أن تكون ملكة في بيت زوجها و أن تعيش برفاهية كاملة .. يدللها ويلبي لها مطالبها كسيدة في قصر من ذهب .. و عندما يتعلق الأمر بشؤونه الخاصة يحب أن تكون هي فقط الحاضرة دوما.. وليس الخادمة .
" العاملة ستكون لخدمتي و مساعدتي أنا .. و أنا وحدي سأعتني بعائلتي .. فمن يحبها مثلي ؟؟ " .
قولا كثيرا ما سمعت أمي تردده و جدتي سبقتها إلى هذه القناعة .. و اليوم صار يقينا.

قد تتساءلون فيما إذا كان زوجي ملاكا أو شخصا كاملا .. لا يا أعزائي، لا هو بالمثالي ولم أكن يوما أنا أيضا كاملة .. لذلك لن أصف حياتنا بالمثالية ولا حتى يُضرب بها المثل .. فلكلينا عيوب و سلبيات كما هو الجانب الإيجابي و الحَسن يصفنا ويسكننا .
في البداية و في أول سنة لنا معا واجهتنا الكثير من الصعوبات كأي زوجين يبتدئان سويا مشوار حياتهما.
هذا طبيعي جدا .. فكلانا جاء من بيئة مغايرة عن الآخر .. إلى جانب أني امرأة و هو رجل .. و لكم أن تتخيلوا خلافاتنا و اختلافاتنا النفسية والفكرية ( البسيطة ) .. و أقول بسيطة لأننا استطعنا أن نجيرها لصالحنا . فلو كانت عميقة و كبيرة لما كنا حتى اليوم نتشارك هذه الحياة.
مررنا بالكثير من المشاكل العابرة والتي تضحكنا في بعض الأحيان .. فمثلا .. أنا أميل إلى الاستيقاظ متأخرا أما هو فأعتبره رجلا منظما و دقيقا جدا و كثيرا ما أمازحه بقولي :" نظامك بريطاني " ليرد ويقول :" نظامك بلا نظام " .
" خفيف الظل هو زوجي .. أليس كذلك ؟؟ " .

كنت كثيرا ما أراه سارحا و كأنه في دنيا أخرى غير دنيانا .. و ما كان يقتلني حقا هو هذا الصمت المريب الذي يطغى على حاله ليجرني معه نحو هاوية القلق .
ذات يوم كنت أقرأ كتابا يناقش العلاقة بين الرجل والمرأة . واستوقفتني إحدى الحقائق التي تشير إلى أن الرجل عندما تواجهه معضلة ما أو مشكلة في العمل أو أيا كان .. فإنه ينغلق على ذاته و يبقى في معزل عن الجميع .. حتى زوجته.
إنها طبيعته كرجل بخلاف المرأة التي تتحدث عن مشاكلها و تبوح بما تشعر به .. حتى و إن لم يملك الحل لمشكلتها.
" زوجي يبقى و حيدا حتى تنجلي الغمامة .. و أنا أحتاج إلى الإنصات في حد ذاته .. حقيقة استطعنا استيعابها .. و احترامها و ممارستها .. فاستقر بنا مركب الحياة على شاطئ الأمان " .

حقيقة أخرى لابد وأن أخبركم بها .
" حديث الوسادة " .. نعم يا أعزائي .. كما قرأتم تماما.
هذا الحديث الهامس بين أي زوجين وممارسته قبل النوم .. عندما يكون الذهن صافيا و الجسد مستلقيا بكل سكينة و الروح هادئة و مطمئنة .. سيكون للحديث أبلغ الأثر و للحكايات طعم آخر.
نبقى نتسامر ونتحدث عن أي شيء و كل شيء .. بلا حواجز ولا حدود . يحيطنا الهدوء الذي يغدو كمنفضة ننفض به ضغوط النهار و شوائبه .. فنغفو في سلام وتصالح مع النفس و كأن روحا جديدة تنتظر أن تولد مع شمس غدنا القادم .

لا توجد سعادة كاملة ، فدائما أراها كالحزن هما وجهان لعملة واحدة .. بالمشاركة سيموت الحزن و بالقسمة تزهر السعادة.حتى نمضي في حياتنا بإيجابية لابد وأن نكون محاطين دوما بالأشخاص المتفائلين كي يعم الفرح و يؤثر فينا ويغلف محيط دائرتنا .. على العكس منه التشاؤم والسلبية ، فما أتعس الفرد منا حين يتشارك الحياة مع شخص سلبي لا يرى منها سوى اللون الأسود القاتم .. والنصف الفارغ من الكوب.
" التفاؤل كقطعة شوكولاته نُهديها لمن نحب .. فنطعمها بشكل ألذ "..
مقتنعة وبشدة بأن إحساسي بالسعادة سينعكس على ملامحي وسيلحظها زوجي في قسماتي و سلوكي معه .. مما سيولد ذلك شعوره هو أيضا بها ..

" لا .. ليس خيالا و لا شعرا ولا رومانسيات فائضة .. بل هو حقيقة واقعة نعيشها كل يوم .. فالاستقرار النفسي نصنعه نحن و لا ننتظر من يصنعه لنا " .

سرقني الحديث عن الزواج و الأزواج ولم أكمل لكم مغامراتي مع أطفالي الأشقياء .
ما أن ينتصف النهار حتى أشتاق لضجيجهم و مشاكساتهم وأبقى أطارد عقارب الساعة حتى تحين عودتهم .. وما أن يُفتح باب البيت و تطل علي وجوههم البريئة حتى يستقبلهم حضني و أحيطهم بحناني كالسحابة في السماء تحضن ضوء القمر..
" أقماري الصغار.. كم أحبكم " .
أقضي معهم ساعات النهار بين استذكار للدروس و مشاهدة التلفاز و الكثير من فترات اللعب .
أحب كثيرا أن أشاطرهم المرح لتستيقظ طفولتي النائمة من سباتها الطويل وتزهر شقاوة و دلال .
كثيرا ما يباغتنا زوجي أثناء انسجامنا في اللعب .. فإما أن يشاركنا هو أو يتخذ مجلسا في زاوية الغرفة ويبقى هناك يراقبنا عن كثب .. فيبتسم حتى تشرق نواجذه و يصيح بأعلى صوته ضاحكا : " ما عدت أفرق بين الأم وبين صغارها .. جميعكم أطفال ".
" ما أجمل أن أعود طفلة في عمر أبنائي لأعود إلى زمن البراءة بدلا أن يسبقوا السنوات ليكبروا وهم ما يزالوا صغارا .. لابد و أن يعيشوا طفولتهم بكل ما فيها " .
هذه قناعتي .. و سأبذل كل ما في وسعي لأفسح لهم المجال كي يعيشوا كل مرحلة في حياتهم كما هي .. لا أن أسابق الزمن .. فيخسروا طفولتهم و يُحرموا منها.

كثيرا ما أقارن بين ما كانت عليه طفولتي و كيف هي طفولة ابنتي اليوم.. كيف كنت وكيف هي الآن .
تفوقني جرأة وتفرض رأيها بكل إصرار واعتزاز.. في عمرها كنت أكثر خجلا وأكثر هدوءا و صمتا . هل هو اختلاف شخصياتنا .. أو هو اختلاف الزمن ؟؟.
ومعاركي التي لا تهدأ ولا تستكين مع أخي .. كأنها عادت وتجددت مرة أخرى .. معها وإخوتها .. كيف وفي لمح البصر تنقلب أجواء البيت من الهدوء إلى الضجيج والبكاء والعراك والخصومات العنيفة في بعض الأحيان .. ولكنها لا تطول .. فهؤلاء الأطفال لديهم القدرة على المصالحة والعفو عن بعضهم البعض وفي زمن قياسي .. تعود المياه إلى مجاريها ويعود الصفو والهدوء .. وفي غمضة عين تطغى البراءة على كل شيء .

قبل خلودي إلى النوم قمت أرتب بعض الحاجيات بعد نوم جميع أهل البيت وانتهاء الحفلة وعودة الأطفال إلى منازلهم . نعم صحيح .. كنت قد سرحت بأفكاري وعدت معكم بالحديث إلى الماضي القريب مما أنساني حفلة ابنتي الغالية وضجيج صَحبها و شقاوتهم.

في ظلمة المكان تعثرت بدمية ابنتي فالتقطتها عن الأرض .. مشيت قليلا فوجدته هناك .. بيتها من المكعبات .. يسكن مكانه القصي في إحدى زوايا الحجرة الفسيحة .. ساكنا كحلم و راسخا مثل أمل.. مثل ذكرى أبت إلا أن تزورني اليوم.
ماضيي البعيد عاد ليحتفل معي .. عاد فأحيى آمالي القديمة و أيقظ البراءة داخلي .
غافلتني دمعة حنين وفرت من عيني بلا موعد ولا استئذان.

جلست على حافة الدرج أحضن دميتها الغضة وعيناي تسكنان ذلك الحلم الصغير .
كنت يوما ما في ذلك الزمن البعيد ألعب بدمية مثلها .. وأصنع بيتا من مكعبات ملونة .. واليوم مرت سنوات عمري وكبرت، وسكنت بيتا حقيقيا و أصبحت أما لصغار من دمّي .. عوضا عن دمية.
تجدد حنيني إلى ذلك الماضي النقي الصافي.. اشتقت إلى طفلة بضفائر سود مبعثرة تركض حاملة دميتها .. تلاعبها و تحاكيها و تعيش معها سحر أمومة لم أشعر بها سوى الآن.
قالت لي جدتي يوما :" الأمومة غريزة يخلقها الله داخل كل أنثى .. تكون ساكنه وهادئة وبلا حراك .. لا يحركها إلا نبض الطفل داخل أحشائك . عند ولادته وكأن طوفانا من المشاعر والحنان يتدفق ويتدفق بلا أدنى سيطرة على جريانه .. و لا تعرفين منبعه . جل ما تعرفينه حينها .. هو أن هذا الصغير الذي بين يديك تضمينه وتناغيه .. هو حياتك .. هو الفرح والسعادة .. ومن كل الدنيا لن يحتاج سواك . سيكون هو نقطة ضعفك الوحيدة .. هو فقط .. ومن أجله تهون الدنيا وترخص بكل ما فيها " .
رحمك الله يا جدتي .. لن تعوّضي .

أطفأت أنوار البيت .. وأغلقت النوافذ والأبواب ..
اطمأننت على صغاري وهم نيام .. وطبعت على جبين كل منهم قبلة ..
مضيتُ إلى غرفتي بخطى متثاقلة ..واستلقيت على فراشي ..
أغمضت عينيّ بوهن .. أحضن بين رموشها صورة باهتة المعالم لطفلة صغيرة كانت يوما .. أنا..



*********************


يُتبع ..


* حقوق الأغنية محفوظة للفنان الراحل محمد فوزي

السبت، 4 يونيو 2011

متى سأكبر ؟؟ - قصة قصيرة ( الحلقة التاسعة )






يا دبلــة الخطوبــة


عروس تختال .. بقامة ممشوقة وجمال أخاذ .. باقة أزهار في اليد اليسار قد يحتار رائيها أيهما الأجمل .. هي أم حاملتها .. والكف اليمنى تحتضن كفا تطابقت بالحس والدفء والتقاسيم معها .. طرحة شفافة انسدلت تكاد تخفي خلفها ملامح سعيدة .. عينان تلمعان وفم مبتسم ونظرة حالمة ..

لحظة تساوت فيها خطواتي مع خطوات شريك حياتي.. ومن اختاره عقلي وقلبي لأتقاسم معه مستقبلا قادما بحلاوته وبكل ما فيه .. سرت معه نحو المنصة .
كنت شبه مغيبة عن كل من حولي .. أكاد لا أميز شيئا من ما يحيط بي .. لا الموسيقى ولا الضيوف ولا الوجوه ولا حتى أين أنا ..
كان عقلي مشتتا وغائبا .. كنت كمن شُل تفكيره وتوقف تماما ..  " يا الله .. أنا عروس ؟؟ " ..
أجل عروس ..

بالأمس القريب أنهيت دراستي الجامعية .. كانت من أجمل مراحل عمري الفائت .. عندما نمى إدراكي وصُقِلت شخصيتي وأصبحت لي أهدافي وطموحاتي في هذه الحياة ..
اتسعت دائرة صديقاتي وتطورت شخصيتي وتحولت من مجرد صبية طفلة الجسد وضيقة الأفق .. لفتاة شابة وناضجة ذات فكر متسع ونظرة عميقة لمعظم الأمور .. 
هدأت كثيرا عما كنت عليه سابقا وأنا طفلة ومراهقة .. أصبحت أكثر اتزانا  وأكثر معرفة .. ولكن  لا زلت أعاني من بعض الخجل والحساسية المفرطة في مشاعري .. حاولت كثيرا أن لا  تسيطر علي أو تتمكن من شخصي .. وعبثا حاولت .. أحيانا أفكر بأنها خلقت معي ونمت معي وكبرت معي وتأصلت جذورها داخل روحي وتشعبت و تشعبت حتى أصبحت أنا أخرى داخلي .. تتعبني كثيرا .. وترهق من حولي أيضا عند تعاملهم معي ..

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي خُطبت فيه ..
كم بكيت خائفة ولم أعرف لماذا وما الداعي لكل ذلك البكاء وقتها .. صديقاتي أعزين السبب للمفاجأة أو خوفا من المجهول .. أو أن كلمة زواج وحدها كفيلة ببث الرعب في نفس أي فتاة ؟؟ .. لا أعرف.
كنت كثيرا ما أستمع لأحاديث بعض المتزوجات منهن وخلافاتهن مع أزواجهن .. و فشل بعضهن في تجربتهن الزوجية. كان يتملكني القلق والخوف من هذه التجربة الغامضة و الحياة الجديدة التي ستقبل عليها أي فتاة كُتب لها الزواج يوما .

لم يكن هاجسا بالنسبة لي .. كنت دائما ما أعتبره قرارا اختياريا وليس مصيريا ، على الرغم من كثرة الأقاويل  حولي بأن الفتاة مصيرها بيت زوجها لا محالة . فكنت أعترض بشدة و أدافع عن رأيي بحزم و صرامة ترى فيها صديقاتي عنادا أتصف به.
لم يكن عنادا مثل ما هو قناعة راسخة في داخلي بأن كل شيء كتبه الله لنا كائن لا محالة.

ترددت كثيرا بشأن الموافقة .. بت أقضي الكثير من الوقت أجلس على أرجوحتي أفكر .. و أتأرجح معها بين القبول والرفض .
حتى أتى ذلك المساء الذي كنت فيه مستلقية على فراشي و مشاعري المختلطة تتضارب وتتصارع داخلي .. كنت أجهل كيف أفكر وماذا أقرر .. عندما قرع باب غرفتي .
جاءت إلي تحضنني وتُريح رأسي على صدرها فأشتم رائحة الدفء والعطر لتشعرني بالأمان كعادتها دائما .
جدتي .. رغم شيخوخة جسدها و تيه فكرها بعض الأحيان .. لكن ما يزال قلبها يحمل الدفء وعبق الحب والحنان ذاته اللذين طالما أشعرتني به طيلة حياتي .. تجيء دائما عندما أكون في أمس الحاجة لمن يرشدني لطريق أسلكه ومصير أقرره .. تأتي لتنتشلني من حافة يأسي وضياعي .. وفي حضنها الدافئ أنسى كل شيء .. ويهون كل شيء .. وينجلي كل شيء ..
قالت لي يومها .. " حبيبتي .. مررت بما تشعرين ومرت والدتك به من قبلك .. هو شخص رائع وذي مواصفات تتمناها كل فتاة .. استخيري الله .. وأيا كان قرارك نحن معك ونحبك  .. " ..
 وطبعت قبلتها الحانية على جبيني .. وبكفها الدافئ مسحت دمعتي التي انسكبت على خدي .. وخرجت ..

في صباح اليوم التالي .. كنت قد قررت ..


كان نهارا مليئا بالأحداث والارتباكات ذلك اليوم الذي زارنا فيه خطيبي لأول مرة.
صحوت من نومي على جرس منبهي المزعج .. كبست زر الإيقاف لأسكته.. ثم زرعت وجهي في الوسادة لأعود إلى النوم.. و فجأة.. و كأن السماء انشقت وألقت بمائها البارد فوق رأسي .. و كأن الغيم رمى بسهام برقه نحوي .. و كأن الرعد اختزل كل غضبه فألقاه على سمعي .. قفزت عن سريري كصعقة كهرباء قذفت بي صوب النافذة .
كانت تمطر..
" لا .. لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها السماء تمطر .. على العكس .. فقد كنت أنتظر الشتاء من عام إلى آخر فقط كي أستمتع بمطر السماء .. ولكن اليوم بدا كل شيء مختلفا.. و كأني أعيشه للمرة الأولى ".
نظرت إلى وجهي في المرآة وهالني المنظر ..
" من أين جاءت هذه الهالة حول عيني ؟؟ .. وما هذا الشعر الجاف .. و ما هذا الوجه الشاحب ؟؟.. يا إلهي .. لا .. ليس اليوم ".
نعم .. هكذا استقبلني الصباح .. أو هكذا استقبلت أنا الصباح .

حالة استنفار عاشها جميع من في البيت ..
قضيت طيلة النهار و أنا أعاني من التشتت الذهني والضياع الزمني ..
بين المرآة و خزانة الملابس و بعثرة الزينة و تصفيف الشعر و أقنعة البشرة .. كنت كالفرس التي تعدو من سهل إلى سهل .. كان كل شيء يسير على خير ما يرام حتى استقبلت تلك المكالمة من صديقتي .. وليتني لم أجب هاتفها .. فبعدها لم يعد أي شيء سهلا كما كان ..

قائمة من النصائح و كم هائل من الإرشادات أثقلت مسامعي بها .. وكأنها تملي علي محاضرة عن أصول الإتيكيت واللباقة الاجتماعية .. و ما أثار حنقي فعلا كانت التوصيات الغريبة عن كيفية التبسم والحديث و التحرك و المشي و حتى كيف أتنفس.. و جميعها تنصَب في قائمة ( الانطباع الأول ) ..
أثارت استيائي فعلا .. فأنا دائما ما كنت عفوية بلا تمثيل ولا حركات مدروسة ..
أبتسم لأني أشعر بحاجتي للابتسام .. و أغضب لأني في حاجة إلى الغضب .. و أتكلم متى أحسست بأني لابد وأن أتكلم .
لم أكن يوما رهينة للتصنع و التكلف أو التقنع وارتداء الزيف.
" كوني كما أنتِ .. فليحبك من يشاء وليكرهك من يشاء " .. شعاري في الحياة .

مرت الساعات على عجل .. حتى حانت لحظة اللقاء ..
بخطوات خجولة و بلعثمة طفلة في أول بوح لها .. مددت يدي لتصافح يده .. ابتسمت وابتسم .. تشابكت الأصابع .. نبض القلب .. و وقع الحب.
كانت ثواني معدودة وهتف قلبي بكل غبطة .. " نعم .. هو من أريد ".
تحدثنا سويا حديثا عابرا .. عبرت معه أزمانا وأزمانا .. وكأن لقاءنا كان منذ أزل بعيد .
كثيرا ما كنت أقرأ عن تعارف الأرواح و تآلفها حين اللقاء حتى أن بعضا من صديقاتي لم يأخذن يوما حديثي على محمل الجد .. بل كن يسخرن من شاعريتي و رومانسيتي الطافحة ..
" أنا فقط أنظر إليه بمنظور روحاني .. فكل شيء يتعلق بالمشاعر و العواطف هو مسألة روحية لا أكثر ولا أقل " .

تريدون الصراحة ؟؟ .. في تلك الليلة لم أنم جيدا ..
قضيت الليل أتقلب على سريري أفكر في ما سيحمله لي المستقبل تارة، و في ما أتخيله تارة أخرى .
اليوم سأواجه واقع هذه الحياة ومعنى المشاركة الزوجية .. بعد سنوات من الإنفراد بكل شيء يخصني .. ما من مشاركة من أي شخص ولا حتى منازعة فيما أملك . أما الآن فقد حَلّ على حياتي نصفا آخر .. إما أن يصبح جزءا من ذاتي أو سيبقى دائما مجرد اسم كما دخل .. سيبقى .
بقيت أنفض عن تفكيري هذه الوساوس والهواجس السلبية لأطمئن نفسي بأن الله قد اختار لي هذا الإنسان وسنوفق حتما طالما وُجد الانسجام و خُلق في أول لقاء لنا معا .. هذا القبول الذي طرحه الله في قلبينا ما هو إلا إشارة إيجابية عن مدى التوافق الذي سيكتمل بيننا .
" غدا .. غدا .. غدا .. متى ستأتي أيها الغد كي أرتاح ويهدأ بالي ؟؟ .. متى ستمضي السنوات لأعرف هل من اخترته زوجا وشريكا سيبقى معي لبقية العمر ؟؟ .. تعال يا بُكرة اشتقت إليك .. " ..
و انبلج نور أول صباح من صباحات الغد ..



*********************
مرت الستة أشهر الماضية كلمح البصر ..
مشاعري نحو خطيبي و محبتنا وعلاقتنا التي ازدادت أواصرها هونت علي الكثير من صعوبات تلك المرحلة التي مررت بها .. و حال بيتنا انقلبت رأسا على عقب .. للأجمل والأحلى والأفضل .
قضيت مجمل تلك الأيام في التجهيز لحفل زفافي والبحث عن القاعة المناسبة لإقامة الاحتفال .
كنت أقضي ساعات النهار في التسوق مع صديقاتي و غالبا مع والدتي و ترافقنا عمتي الغالية. كان لوجودها إلى جانبي في تلك الفترة الحرجة لذة خاصة .. و بالنسبة لي كانت مثالا حيا أستقي منه خبرات جديدة و أتعلم من خلالها كيفية استغلال الوقت و تجييره إلى صالحي .. حتى لا تنقضي الأيام عجلى دون أن أقضي جميع مستلزماتي .

تزوجت عمتي قبل عشر سنوات .. كنت أرافقها للتسوق و قضاء الكثير من حاجياتها .. فكانت دائما تردد على مسامعي عبارة " وجهك خيرا علي " .. ولم أكن أعرف السبب .. ثم لا حقا أخبرتني بأني عندما أكون برفقتها تسير أمورها بيسر و سهولة .. و تماما كما تريد هي.
" تفاءلت بي .. و اليوم أتفاءل بها " .
افتقدتها كثيرا .. غادرت البيت تاركة خلفها حاجياتها و ذكرياتي معها .. غادرت جدران حجرتها التي مافتئت تئن من اشتياقها لها كما يئن قلبي بعد غيابها .. و كما غادَرَت سأغادر أنا .. قريبا .

جاءني يوما أخي .. من كان وحشا بشريا في يوم من الأيام .. وقد أخفى خلف ظهره شيئا ما .. طبع على خدي قبلة .. وأعطاني هدية .. قال لي افتحيها عندما أخرج .. وقبل أن يغلق باب الغرفة استدار نحوي وقال : " في بيتنا عروس " وغمز بعينه لي وابتسم .. وأقفل الباب وراح ..
فتحت الهدية .. سلسال جميل ورائع محفور عليه اسمي ومرصع بالألماس .. أتعرفون بم كانت مغلفة ؟؟ بذلك القماش الأسود الذي كان يلفه حول عينيه مقلدا سلاحف النينجا .. قبل سنوات من الآن .. عندما كنا صغارا نتعارك بالأيدي .. فرق بين اليوم والأمس .. اليوم صار أخي و صديقي وسندا لي في هذه الحياة.
ارتديت السلسال.. وقفت أمام مرآتي أتأمله .. عندما انهمرت دمعاتي من عيناي ولمعت على خداي .. لمعة الألماس على  نحري .. وبكيت .

آخر ليلة أنام فيها على فراشي .. كل شيء في غرفتي مبعثر .. حقائبي وملابسي و أشيائي .. كل شيء .
تمددت على فراشي وأخذت أتأمل جدران غرفتي .. هذه الجدران التي احتوتني واحتضنت أيامي وأخفت أسراري وراقبتني في دخولي و خروجي .
 صوري .. خزانتي .. أوراقي .. أقلامي .. حاسوبي الشخصي .. طفولتي .. نضجي .. صباحي ومسائي .. مرضي و صحتي .. بكائي وفرحي .. عمرا بأكمله ..
 سأترك كل هذا وأرحل عن هنا لأبدأ حياة أخرى ومستقبلا آخر ومرحلة أخرى مع نصفي الآخر.. أتمنى أن أكون معه سعيدة.

وصلنا إلى المنصة .. وخزه خفيفة أحسستها بكفي .. عندما نبهني شريكي كي نقف .. استفقت من أفكاري على ابتسامته الرقيقة ونظراته المليئة بالحب .. واقفا بجانبي .. تحتضنني عينيه وروحه .. شعرت حينها بأن كل الدنيا ملكي .. أنا وحدي ..

أبي وأمي و أخي ، جدتي وعمتي .. جميعهم إلى جانبي .. ألمح في أعينهم دموع الفرح .. وعلى شفاهم بارقة السعادة  وأنا أحضنهم بكل الحب .. عندما سطع ضوء الفلاش ... 

والتقط قلبي صورة.



*****************************************

يُتبع ..

* حقوق الأغنية محفوظة للفنانة شادية